العدد 69 - كتاب | ||||||||||||||
كل حدث وكل فعل ونشاط إنساني على هذه الأرض، حصل إما بفعل الحب أو بتأثير نقيضه: الكراهية، ومجمل ما أنتجته الحضارة الإنسانية في عصورها المتعاقبة قائم على حضور الحب أو غيابه. فالغزوات والحروب والقتل والتعذيب والاغتصاب والنهب والتدمير وإرهاب المختلف، إنما هو تغييب فعلي للحب، ونفي للمحبة، وإشهار للكراهية.. الكتابة أداء إنساني قد تعني في أول تجلياتها استحضاراً للمغيب المنفي، فهي تعول على حضورنا في اللحظة وما يليها - بأجسادنا وأوهامنا وظلالنا، الكتابة جسد الوقت بما هي خروج على الصمت واستعادة لقدرات فقدناها في أفول سحر الخرافة والأسطورة، حين تعقلن النص، وتفلسف وتناءى عن الرؤى البدئية والتصورات البكر عن العالم. يقول جيل دولوز: «لا نكتب إلا بفعل حب، وكل كتابة هي رسالة حب، وينبغي ألا نموت إلا بفعل حب وليس ميتة تراجيدية». داخل النصوص وفي ما حولها في الهامش اليومي، نعثر على صيغ الحب وأشكاله وحضوراته، ونتلمس فيها صورة العصر وتحولات ثقافة المجتمعات وسياسات الحكم ومكانة المرأة في الحب وحضوره في مثولها الوجودي وحالات القمع والعسف التي تتعرض لها داخل نص الحياة المعيش، وضمن الكتابة.. الشعر يقود خطى «الحب» في متاهة الأمكنة وتقلبات الزمان، يعلمه النطق ويشهر بين تشوقاته الموسيقى والغناء ووهجات الجمال، وبالشعر يتوسل الحب بلوغ مراميه، وفي الميثولوجيا تتقرب ربات الحب إلى المحبوب بترنيمات وأناشيد، فهذه عشتار تغوي دموزي (تموز) بالقصائد وتتضرع لكلكامش بالشعر والترتيلات، وتبارك الكاهنات والعرافات العشاق بإنشاد ترانيم وتعاويذ.. الشعر- اللغة المفارقة لليومي، والمترنحة عند تخوم السحر، هي وسيلة الحب وإطاره الجمالي، كما نجدها لدى «التروبادور»، الشعراء الجوالين والفرسان والعشاق العذريين، وهم ينشدون أغانيهم تقدماتٍ بين أيدي السيدات المعشوقات.. لماذا لا يجاهد البشر من أجل المحبة، ويقتصر جهادهم من أجل الكراهية والموت؟ لو كانوا يعرفون الله حقاً، لعرفوا أن الله محبة، ولجاهدوا من أجل محبته بإدامة الحياة، لا إشاعة الموت والثكل واليتم في أرض البشر.. ما لهذا العالم المهدور يحدق بآبار الكراهية لينتحر بمياهها العكرة كل آنٍ؟ لماذا لا يرد الإنسان على الألم والجور والحروب بصنع المحبة؟ هل الكراهية أيسر أداء من الحب، كونها تهدم وتدمر، بينما الحب بنّاء ومجدد ومغيّر للحياة؟ ما أتعس البشرية وهي عاجزة عن اجتراح المحبة، وما أتعس الإنسان في وحشة الكراهية!. كل حروب الأرض فعل كراهية، وكل إبداعات الإنسان الجمالية من عمارة وموسيقى وتشكيل ورقص وتمثيل وغناء ونحت، هي أفعال حب لا ريب فيها، كل نص فاتن وكل قصيدة يرددها الناس هي نتاج حب للحياة والبشرية، وعجز الفرد عن رؤية الجمال وتذوقه قد ينتج أفعالَ كراهية خطيرة في المجتمعات، ومن يفتقد الحرية، كثيراً ما يعجز عن إتيان أفعال محبة وإبداع، فالعبودية تنتج الكراهية والحقد ونزعات التدمير... ألا من مجاهدين يعلنون المحبة شريعةً بين البشر؟ لماذا لا تقوم حركات مجتمع مدني لنشر المحبة؟ لماذا لا تنشأ جمعيات تعمم التسامح، وتعلّم الأجيال عشق الحياة بديلَ عشق الموت؟ |
|
|||||||||||||