العدد 69 - أعلام | ||||||||||||||
عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.
فيصل دراج ثلاثة أسباب تعطي السوري الحلبي فرنسيس فتح الله مرّاش (1835 - 1874) موقعاً خاصاً في تاريخ الفكر التنويري العربي الحديث: فهو مؤلف كتاب «غابة الحق» (1865) الذي يؤرخ به بعض النقاد ولادة الرواية العربية، وهو الذي سرد روائياً، «نظرية العقد الاجتماعي»، وهو ثالثاً التنويري الذي رأى في روايته «مدينة فاضلة» ترجمةً لمعنى الأزمنة الحديثة. أنجز الحلبي، الذي رحل مبكراً، «غابة الحق» متكئاً على ثقافة مركبة جمعت بين معرفة بالموروث الأدبي العربي، وفلسفة أوروبية حديثة، تحيل على الثورة الفرنسية، وإيمان ديني لا تعصّب فيه، حمل للإسلام احتراماً كبيراً. وضع مرّاش كتابه الشهير لأكثر من سبب: استنكاره للاستبداد العثماني، الذي أفقر البلاد والعباد وحوّل «المدائن المزهرة» إلى أطلال أو ما يشبه الأطلال، واحتجاجه على انحطاط العرب وتخلّفهم عن ركب الشعوب المتقدمة: «فقلت في نفسي إن الجهل الفاشي في الأمة العربية هو الذي أوجب انحطاط شأنها لدى الأمم الأوروبية، ولو كان للعرب مدارس نظير ما للإفرنج، ومساعدون على تقديم العلم، ومحبة وطنية منزهة عن أغراض الدين، لما أصبح العرب أضحوكة عندهم، بل ربما صار العرب أرقى من جميع الأمم علماً، لشدة حذقهم الطبيعي وحزمهم،...». ويأتي السببُ الثالث من وظيفة المثقف النقدي، الذي يقارن بين أوضاع بلاده وغيرها، ويعمد إلى ثقافته الحديثة، مبشراً ومستنهضاً وحالماً بمدينة عربية جديدة تلتحق بـ«العالم الجديد». درس مرّاش الطب في مدينته حلب لمدة أربعة أعوام بإشراف طبيب إنجليزي، وذهب إلى باريس العام 1866 ليكمل دراسته التي توقفت لأسباب صحية. ولعل ميله إلى المعرفة والاكتشاف هو الذي دفعه إلى تعلم اللغتين الفرنسية والإيطالية. وضع معارفه في أكثر من كتاب أشهرها «غابة الحق»، الرواية التربوية التي شرح فيها دلالة التمدّن التي تعني العقل الحر والمسؤولية الأخلاقية، ووسائط التمدن التي تنهض على المساواة والعلم وتهذيب، ومرجعية الطرفين التي تتمثّل في سلطة متحضرة قوامها الاعتراف المتبادل بين الحاكمين والمحكومين.
ذلك أن هذا الاعتراف، الذي يسلب الإنسان قسطاً من حريته، شرط ضروري لممارسة الحرية بشكل عقلاني: «إن الإنسان إذا كان متعبداً لأحكام دولة التمدن والصلاح يكون داخلاً في حقيقة الحرية التي تطلبها الواجبات الإنسانية..». صاغ مرّاش، على طريقته، جدل الحرية والضرورة، إذ الحرية المطلقة ضرب من الفساد، وإذ الضرورة العقلانية درب إلى حرية أوسع. غير أن المؤلف لا يقبل بالفرق بين النسبي والمطلق إلا لاقتناعه بالتطور الإنساني، الذي علّم المجتمعات النظام وانضباط السلوك، وقادها من اكتشاف علمي إلى آخر. ومع أن الطبيب السوري فتن بأفكار فلاسفة الثورة الفرنسية، مثل روسو وديدرو وفولتير، واقتبس منهم أفكار المجتمع المدني والمواطنة والحق الطبيعي والعقد الاجتماعي، فقد صالح بين الإيمان الديني والحداثة الاجتماعية، عادّاً دولةَ الحق امتثالاً للإرادة الإلهية العليا: «إن الإنسان إذا كان يحب نفسه، فهو ملزم، تبعاً لهذه المحبة، أن يحب شبيهه بالإنسانية تسديداً لحق كماله الطبيعي، وذلك اقتداء بخالقه الذي عندما رأى جوهره ملء الكمال أحب ذاته بديهياً. وبمحبته هذه خلق العالم محبوباً منه،..، وبالمحبة تتحرك الأشياء جميعاً، وبالمحبة يحافظ الكل على أجزائه». رأى مرّاش الجمال في النظام، وحلم بمجتمع تسوسه سلطة متحضرة مثقفة عادلة، أو دولة مدنية، تنقض قوة الحكم المطلق، الذي يشوّه البشر وطبائعهم ويخلق رعية تجهل النظام والجمال في آن. ذلك أن بين النظام، بالمعنى العقلاني، والعبودية، مسافة شاسعة. شرح مرّاش الحداثة الاجتماعية بشكل حكائي، مخادعاً الرقابة السلطوية، وملبيّاً نزوعه الأدبي. ولهذا يبدأ كتابه بالحلم، كما لو كان يقول: «رأيتُ في ما يرى النائم»، متخذاً من النظام السياسي موضوعاً لحلمه، وجاعلاً من «غابة الحلم» صورة لمدينة فاضلة في طور التكوّن. وما فصول الكتاب، الذي يرصد المسافة بين الحلم واليقظة، إلا فصول النظرية السياسية الحديثة، التي أراد المؤلف أن يعرضها أمام القارئ العربي بعامة، والقارئ السوري بخاصة. فبعد «الحلم»، عنوان الفصل الأول، تأتي فصول سبعة مختلفة العناوين تتضمن: السياسة والمملكة، التمدن،.... وتنتهي بفصل أخير هو: اليقظة. تتخلل العناوين الأساسية عناوين فرعية تكشف عن أهداف «الحلم التربوي»، مثل: تهذيب السياسة، تثقيف العقل، تحسين العوائد والأخلاق، صحة المدينة، العبودية... تترافد المقولات جميعاً وتُنهي إلى نظام سياسي واضح القواعد يحترم الحقوق والواجبات: «كما أن نظام هذه الكرة الأرضية لا يمكن قيامه بمجرد حركتها اليومية على نفسها فقط، بل يحتاج إلى الحركة الشمسية حول فلكها أيضاً،....، هكذا يحتاج ذلك المجموع الإنساني إلى قوة تحفظه من الوقوع في الخلل والتبديد. وإذا أخذنا نفتش عن مثل هذه القوة فلا نراها إلا في السياسة والشرعية». مع أن مرّاش يبني مدينته على وحدة العلم والأخلاق والتجربة، فهو يستولد العلاقات جميعاً من سلطان العقل الذي يميّز العادل من المستبد مثلما يفصل بين الخير والشر: «ولما كان لا يمكن للرائي أن يدرك جلياً كيفية امتداد السياسة على العالم، وجب عليه أن يستخدم العقل كي يمكن لأعينه أن تنفذ في تلك الظلمات الدامسة، فتفوز بمشاهدة ما وراء ذلك..». قرأ مرّاش تاريخ الأمم، وكشف أمام قارئه طبيعة النظام السياسي الذي يحقق السعادة، وطبيعة النظام الذي يجلب التعاسة والخراب. أقام النظام الأول على شعارات محدّدة: «العقل يحكم، العلم يغلب، الحرية تنتصر، الإنسان المتمدن يهزم غيره، الدولة المتمدنة تتمتع بالفوز والاستقرار،...». ربط الشعارات جميعاً بتقدم أخلاقي معنوي معرفي، وجعل الدولة الحديثة محصلة للتقدم، وعنصراً حاسماً في تطويره وإعادة إنتاجه. فهذه الدولة تخلق إنساناً سعيداً يخلع «كل أمارة تجعله عبداً وأسيراً لمن يعلوه أو يتوطّاه»، وتُنتج الإنسان المثقف «الذي لا يدرك لذة أعظم من تلك الملذات التي يدركها عندما ينشر شراع العقل لسفينة أفكاره». أدار مرّاش حديثه حول الدول المدنية، وبنى الدولة المنشودة على العقل المثقف وسلطة العلم: «لا يعد الإنسان قادراً على الدخول في دائرة التمدن الذي يطلب سلامة الطباع إلا إذا كان متزيّناً بتثقيف العقل الذي يُعتبر كآلة عظيمة، بها يمكن لكل البشر أن يسترجع إلى طبيعته ما أفقدها التوحش». ويقول أيضاً: «إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل، والمروّض الأكبر لجماح الطبائع، والسبب الأهم لتشييد التمدن والعمار، إذ إنه يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية، فلا يعود هاذياً بخزعبلات الأمور». تحمل كلمة «التوحش»، المتواترة في «غابة الحق» بعدَين: يكشف أحدهما عن تصور فرنسيس التطوري، حيث التمَدْيُن تجاوز ضروري للتوحش. ويؤكد ثانيهما مبدأ المقارنة الذي يخترق الكتاب كله، فلا إمكانية لإظهار محاسن الدولة المدنية إلا مقارنة بمساوئ السلطة المتوحشة. لهذا يكون شرح فضائل الدولة القائمة على «العقد الاجتماعي» شرحاً لرذائل السلطة المطلقة، الأمر الذي يبني الكتاب كله على جملة من التعارضات والمتناقضات. ففي مقابل النظام العادل، يقف القارئ أمام صفات مملكة العبودية التي تتلف المصالح العامة. يكثّف مرّاش معنى النظام العبودي حين يقول: «أما تعلم أنه لا يوجد لأهل الخشونة والبربرية ميثاق سوى الكذب، ولا شريعة غير الاحتيال والمكر، ولا حكم عدا التعدي والظلم، ولا حاكم خلاف الرشوة، ومن أصعب الأمور إخضاعهم دون تبديد». ولعل عنف التوحّش، لا يزول إلا باستئصاله، وهو الذي جعل مرّاش يطلب من دولة العقل والعدالة أن تقوم بإعادة بناء سلطات التخلّف والبربرية، وأن تضع لها «قوانين وشرائع جديدة» تخلّص شعوبها من «فخاخ دولة العبودية». أعطى مرّاش، في روايته الذهنية، مكاناً واسعاً للفيلسوف، الذي يفصل بين النور والظلام، ومحا المسافة بين الروائي والفيلسوف، معلناً أنه أديب وفيلسوف وداعية من دعاة الثورة والإصلاح. استولد حلمه من معرفة متفائلة، واستولد التفاؤل من «عالم جديد» هزم عالم الخزعبلات والأرواح الفارغة: «هكذا مدت دولة العقل قوتها على كل بقعة ومكان، وعم السلام على المسكونة كافة». رأى ما أراد في الحلم، واضطرب كثيراً حين تذكّر مدينة حلب: «سمعت صوتاً من بعيد يناديني (هذه برية الشهباء فلتبْشْر بقدوم الخير)، فقلت في نفسي: من أين سيأتي الخير إلى هذه القفار المجدبة والساقطة من أعين العناية منذ ألف سنة وأكثر؟». أعلن مرّاش عن تشاؤمه في لحظة، وتجاوز التشاؤم حين نظر إلى تاريخ حديث يمسح البربرية شيئاً فشيئاً متجهاً إلى مدينة سعيدة. |
|
|||||||||||||