العدد 69 - دولي
 

ستيفن غلين

لم يمت اليسار العلماني الإسرائيلي بعد، على الأقل عندما يتعلق الأمر بقداسة الجيش الإسرائيلي، فالتقارير التي أفادت بأن الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلي أشاد بالهجوم على غزة بوصفه حربا مقدسة لا مكان فيها للرحمة، أثارت ردود أفعال بين مجندي الجيش الذين يشعرون بالقلق من التدين المتنامي بين صفوفهم. ففي التراتبية العسكرية، يمكن أن تكون هناك سلطة عليا واحدة، وفي الجيش الإسرائيلي فإن تلك السلطة يمثلها رئيس الأركان غابي أشكنازي.

في الأسبوع الماضي، دافع الجنرال أشكنازي علنا عن سلوك رجاله أثناء الهجوم على غزة، والذي قالت صحيفتا هاآرتس ومعاريف في تقارير موثوقة إنه تم في إطار قواعد فضفاضة للاشتباك شجعت على قتل المدنيين وأعمال قتل أخرى. وفيما كان الجنود الإسرائيليون يستعدون للهجوم، قال شهود عيان إن رجال دين وزعوا منشورات تشجعهم على القتل باسم الرب، في نصيحة تذكيرية مألوفة في الشرق بقدر ما هي مقبضة عالميا.

وفي تصريح يذكر بنفي إسرائيلي معتاد، قال أشكنازي إن جيش الدفاع الإسرائيلي هو أكثر الجيوش “أخلاقية” في العالم، وهو قد يشير هنا إلى الأخلاقية من وجهة نظر مستوطن يهودي. ولكن هنالك شيئا من النزاهة، حيث إن أكثر من جندي إسرائيلي أوحى لي بذلك في مدن في الضفة الغربية مثل نابلس والخليل وجنين على مدى سنوات. ولا شيء يكشف جيشا بأسرع مما يفعل واجب يفرضه احتلال صعب لا يمكن تحديه، وهو ما يفسر أن الجنود الإسرائيليين، الذين يتحدثون بشجاعة بوصفهم معارضين عن وعي، هم بين أكثر نقاد إسرائيل قسوة على إرسال قوات عسكرية إلى داخل الضفة الغربية وغزة. إن التغلغل المتزايد للأصوليين المتدينين في الجيش الإسرائيلي يجعل أفق أقامة دولة فلسطينية مستقلة أكثر صعوبة مما هو الآن في ظل حكومة نتانياهو اليمينية الرجعية.

لقد أقام إسرائيل علمانيون متشددون بدءا من بن غوريون، الذي كان معارضا بشدة للهالاكاه، أو القانون الديني اليهودي. ولسنوات، كان ضباط جيش الدفاع الإسرائيلي طليعة للنخب الليبرالية التي كانوا يعلنون علمانيتهم كمن يرتدي شريطة الميدان. وخلال الأيام الغابرة للحرب العربية الإسرائيلية العام 1967، رفض الجنرال عوزي ناركيس، في حادثة شهيرة، طلبا من أحد الحاخامات بنسف قبة الصخرة بعد استيلاء إسرائيل على القدس. وكان رئيس ناركيس، الجنرال موشي دايان، ما يصفه الأصوليون المسيحيون الأميركيون اليوم بأنه “علماني متشدد”. (يمكن للمرء أن يتخيل ما الذي يفكر فيه دايان عن تحالف إسرائيل مع حركة العنصرة الأميركية ‘American Pentecostal movement’).

ولكن تجذر الاحتلال بعد العام 1967، ومجيء قادة إسرائيليين فيما بعد يمتنعون عن مواجهة المحافظين المتدينين حول صلاحية شعار إسرائيل “الكبرى”، جعل الصهاينة المتشددين أكثر قوة ونفوذا وأصبح لهم أصدقاء موثوقون في أميركا. وفي أثناء ولاية نتانياهو الأولى، في أواسط التسيعينيات، بدأت أعداد متنامية من الجنود في ارتداء قبعات منسوجة، هي رمز الحزب القومي الديني المتنفذ، ما أحدث أثرا سلبا على حزب بن غوريون السياسي الذي كان يوما حزبا ليبراليا قويا. وكثير من هؤلاء المجندين الشبان هم الآن ضباط، وفي أواخر العام الماضي اندمج الحزب القومي الديني مع مجموعات شبيهة به لتأسيس كتلة أصولية صلبة في الكنيست. وقد صرح موشيه هالبرتال، وهو أستاذ فلسفة شارك في صوغ الميثاق الأخلاقي لجيش الدفاع الإسرائيلي، لصحيفة نيويورك تايمز الأسبوع الماضي بأن بعض أكثر الوحدات نخبوية قد اخترقت من جانب كوادر يمينية دينية “تحاول أن تؤثر على المجتمع الإسرائيلي من خلال الجيش.”

ولكن مهما كانت درجة الخلل في إسرائيل، فإن جيش الدفاع الإسرائيلي قد حافظ على درجة عالية من المهنية والمرونة، وقبل جيل، حين تقدم المهندسون ومصممو البرامج الذين شكلوا الجيش الإسرائيلي بوصفه قوة مقاتلة تستخدم أحدث منجزات التكنولوجيا للحصول على تقاعد مبكر للإثراء من العمل في القطاع الخاص، تحدث خبراء الدفاع بقلق عن “تفريغ” الجيش. مثل هذه المخاوف كان مبالغا فيها، فقد أعاد الجيش توليد مهارات بديلة بين صفوفه، وجزئيا، كان ذلك بسبب الطبيعة السكانية للجيش التي كانت دوما مخلصة لتركيبة الدولة عموما، فقد كانت الإثنيات المختلفة في الدولة ممثلة في صفوف الجيش في صورة جيدة – أولئك القادمون من روسيا وإثيوبيا، والدروز العرب، وأبناء نخب جيل الصابرا - كانوا ممثلين في الجيش. وحتى حين تخلت إسرائيل عن هويتها الاشتراكية وأصبحت ذات كفاءة وذات اقتصاد رأسمالية، فإن جيشها بقى جيشا للشعب.

وكما يبدو من حكومة نتانياهو الجديدة، فإن المشهد السياسي الإسرائيلي قد تحول – ربما كان أفسد هو التعبير الأفضل – بفعل القوة السياسية المتزايدة للحركات القومية والدينية. فهل سيحدث الأمر نفسه للجيش؟ يتخوف قادة معينون في الدوائر السياسية والأكاديمية من مثل هذا الاحتمال، حتى إنهم جددوا إطلاق الدعوات لحل بعض الفصول الدينية في الجيش المملوءة بجنود أعلنوا أنهم سوف يعصون أي أمر بإخلاء المستوطنات.

إن “تهويد” الجيش الإسرائيلي ليس أمرا لا نظير له بالطبع، ففي العالم العربي، حل محل وحدات الجنود المدربة على النمط الغربي وذات التوجه الغربي، كما في عهد جمال عبد الناصر، قادة محترفون ضيقو الأفق وفاسدون كانت مهمتهم الوحيدة، بخلاف حماية القيادة، هي اجتثاث الإسلاميين من بين صفوفهم. الفرق الوحيد، هو درجة الكفاءة في قدراتهم مقارنة بتلك التي لدى الجيش الإسرائيلي. وحتى الآن، قصرت إسرائيل إجابتها على الاستفزاز العسكري المعهود، مع رد غير متناسب، وهي سياسة تضمنت تهديدات من أعداء مثل سوريا وعراق صدام حسين. فلو قام اليمين الديني الإسرائيلي في الجيش بما قام به في السياسة، فإن هذا الانضباط ربما لن يكون مضمونا في ما بعد.

قابلت يوما طيارا إسرائيليا سابقا انضم إلى الحزب القومي الديني بعد تقاعده، واتخذ له مقرا في القدس الغربية. كانت جدران مكتبه مليئة بالصور والتذكارات التي حصل عليها خلال حياته العسكرية، والتي كانت إلى حد كبير عمومية وقابلة للنسيان، باستثناء صورة داخل إطار: صورة جوية أخذت من على متن طائرة فانتوم إف – 4 إسرائيلية تحلق فوق قبة الصخرة مباشرة.

إفساد عسكري بعد السياسي: اليمين الديني يخترق الجيش الإسرائيلي
 
26-Mar-2009
 
العدد 69