العدد 10 - اقليمي
 

معن البياري

أغلق أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح الأحد 13 كانون الثاني (يناير) الجاري التكهنات التي كانت قد شاعت عن قرب حله مجلس الأمة (البرلمان)، ما عنى أن صيغة الحل ليست الصيغة الوحيدة، أو التي لا بدّ منها، في جولات التأزم بين الحكومة والمجلس، وفي مواسم لا يكاد ينقضي أحدها حتى تتجدّد، تتوسل فيها قوى في البرلمان صيغة استجواب الوزراء باعتبارها حقاً مكفولاً في الممارسة الديمقراطية، ويحدث أن تعمد الحكومة إلى تفادي هذا الأمر بإحداث تعديلات وزارية أو استباق الوزراء المعنيين بالاستجوابات بالاستقالة من مواقعهم. وإذا ما نُظر إلى المسألة في شكلها هذا، فذلك يثير الانطباع أن حكومات الكويت «تتحايل» في هذا المسلك على حقوق النواب وعلى آلية ديمقراطية مشروعة، وأن النواب المنتخبين إنما يقومون بواجباتهم في مراقبة الوزراء ومحاسبة الحكومة ومساءلتها، غير أن المشهد في تفاصيله وجوهره ليس على هذا النحو دائماً، وإن لم تخلُ محطات ووقائع سابقة كان عليها الأمر كما سبق توصيفه.

في لقائه رؤساء وممثلي الكتل النيابية في مجلس الأمة: التجمع السلفي والعمل الوطني والمستقلين والإسلاميين المستقلين والعمل الشعبي والحركة الدستورية الإسلامية (الإخوان)، أشاع أمير الكويت أجواء تهدئة في مناخ يشهد منذ شهور تصدّعاً في العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وقال إنه لا تراجع عن الديمقراطية. وشدّد في الوقت نفسه على أن الكويتيين سيرفضون العودة مجدداً إلى ما سماه «التأزيم غير المجدي» بين السلطتين المذكورتين اللتين طالما طالب الأمير نفسه بالتعاون بينهما، وطالما ألحت الصحافة الكويتية ونخب غير قليلة على وجوبه، وعلى الحاجة إلى ضبط الأداء السياسي العام. وهي مطالب انتعشت أخيراً قبل وبعد ما سمي «الاستجواب التاريخي» الذي شهدته الكويت في الثامن من يناير الجاري، وكانت نجمته أو بطلته على الأصح، بحسب توصيف كويتيين كثيرين، وزيرة التربية والتعليم نورية الصبيح، التي وقفت لعشر ساعات في البرلمان ترد على مستجوبيها بثقة عالية في النفس، واقتدار وتحضير جيد وإلمام وافٍ بما تحدثت بشأنه، فكان أداؤها موضع إعجاب أوساط عريضة في بلدها، ومن بعض خصومها. وفي مساء ذلك النهار خرج رئيس الوزراء الشيخ ناصر المحمد من قاعة مجلس الأمة مبتسماً، يمسك بيد الوزيرة التي كان قد تم طلب طرح الثقة بها، وهو ما سيتم التصويت عليه في العشرين من الجاري، وأجاب الصحفيين على سؤال في هذا الشأن بالقول «إن ما جرى ممارسة حضارية تتم وفق الحق الدستوري لمجلس الأمة».

استحقّت هذه الواقعة احتفالاً غير عادي في صحف الكويت وبعض دواوينها، وكان من بعض مظاهرها إبراز وكالات الأنباء صورة مصافحة الرئيس الأميركي جورج بوش الوزيرة نورية الصبيح في أثناء استقباله لدى وصوله إلى الكويت في 11 الشهر الحالي. وموجز الواقعة أن نائباً إسلامياً مستقلاً هو الدكتور سعد الشريع تقدم باستجواب للوزيرة، وناصره ثلاثة نواب أحدهم من التكتل الشعبي الذي يتزعمه أحمد السعدون، ونائبان آخران، يوصف أحدهما أنه قبلي، ويشار إلى الآخر بأنه مستقل شيعي، ما دلّ على أن خليطاً نيابيّاً له دلالته يقف وراء الاستجواب الذي دارت محاوره حول عدة قضايا، منها حادثة هتك عمال نظافة بنغاليين عرض تلاميذ في مدرسة، رأى مقدمو الاستجواب أن الوزيرة لم تتعامل معها بصورة سليمة، وانتقدوا تعاملها مع واقعة شخبطة تلميذة صغيرة على نسخة من المصحف الشريف، برسم صليب عليها. وتحدث النواب أيضاً أن الوزيرة تغض النظر عن كتب في الجنس موجودة في مكتبات مدرسية وعن كتب للسلف الصالح تتضمن أخطاء وتحريفات. وإلى هذه «القضايا»، طرح الاستجواب ما اعتبر تهكماً من الوزيرة الصبيح على المؤسسة التشريعية وتضليل النواب، وما حسب تجاوزات مالية وإدارية، وتراجعاً في العملية التعلمية، كما اتهمت الوزيرة بالتفرغ لتصفية الحسابات.

كان يوم الاستجواب خاصّاً في الكويت، وهو السابع في الفصل التشريعي الحالي، والرابع لوزير يحمل حقيبة التربية والتعليم وال 41 في تاريخ الحياة البرلمانية في الكويت منذ تشكل أول مجلس نيابي منتخب في الكويت في 1963 غداة صدور الدستور في 1962وحصول الاستقلال في 1961. احتشد في صباحه مئات الكويتيين أمام مقر مجلس الأمة، أغلبيتهم من النساء والطلاب، جاءوا لمساندة الوزيرة التي أجادت في ردٍّ مطول على كل الاتهامات، وُصف بأنه كان قوياً ومقنعاً، استعرضت فيه حرص الحكومة على الدفع بالتعليم، وتخصيصها ما قيمته 11 مليون دينار لذلك، وعرضت مشروعات تعكف الوزارة على دراستها وتنفيذها، وقالت إن الاستجواب يحملها مسؤولية وقائع حدثت في غير عهدها، وفندت بالتفصيل اتهامات صاحب الاستجواب، ورفضت رميه لها بأنها «تشيع الفاحشة»، وأوضحت تفاصيل متابعتها لمسألة الكتب وسلوك التلميذة وقضية هتك العرض التي أوضحت أن وزارة التربية والتعليم تعاملت معها بسريّة تهدف إلى الستر، وليس كما افترض مقدم الاستجواب دفاعاً عن المعتدين وحارس المدرسة.

في الأثناء، هدد نائب آخر من كتلة العمل الوطني، هو أحمد المليفي، باستجواب وزير الداخلية الشيخ جابر الخالد بسبب ما اعتبره تجاوزاً في ملف التجنيس الذي أعلنت لوائحه مؤخراً وضمت 573 اسماً، وخير الحكومة بين استقالة أو إقالة الوزير أو المساءلة السياسية، واعتبر أن الوزير ارتكب مخالفات جسيمة في الملف المذكور، وهو ما أيده فيه نواب آخرون. وفي هذه الأجواء التي يتواصل فيها صداع الاستجوابات وموجات التأزيم والتوتر بين الحكومة وقوى في البرلمان، وهي أجواء مسبوقة بكثير من مثيلاتها في العام 2007 الذي انقضى، في أثنائها راج احتمالات تغيير الحكومة، وتردد أن ضعف شخصية رئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد وراء الأزمات المتكررة، وشاع أن استقالته واردة وتكليف نائب رئيس الحرس الوطني الشيخ مشعل الأحمد بتشكيل حكومة جديدة، ولم يرشح من لقاء الأمير بممثلي الكتل النيابية الأخير ما يعزز مثل هذه الاحتمالات والشائعات التي يقال في الكويت إن أجنحة في الأسرة الحاكمة وراء ترويجها. وعلى مقربة أو مبعدة من هذا كله، يحدث أن ترتفع سقوف الحرارة السياسية فتصل إلى حد المطالبة برئيس للحكومة «شعبي»، أي أن لا يكون من الأسرة الحاكمة، وهو موضوع ما يزال «تابو» محكماً بالنسبة للسلطة في الكويت.

ربما يرى مراقبون من بعد في حالات استجواب نواب وزراء في البرلمان الكويتي دلالة انتعاش وحيوية في الأداء البرلماني في هذا البلد، غير أن قناعات أهل هذا البلد ليست كذلك. لا شيء غير الإزعاج يلحظه الكويتيون من تتالي هذه الاستجوابات والمماحكات والتأزيمات والتوترات أسباباً لتعطيل العمل الحكومي وإعاقة عمل الوزراء، إلى حد أنها باتت تعزز «تنفيراً» غير هين الحضور من الديمقراطية، حيث الأجواء غير صحية، في ظل تزايد نفوذ التشكيلات الدينية وتسلل هواجس طائفية، وتداخل الأهواء والمصالح الخاصة في الأداء السياسي عموماً. ولا يخفي كويتيون عديدون أن فخرهم بأن بلادهم تنعم بالديمقراطية والحياة النيابية منذ 45 عاماً، رغم تعطل مجلس الأمة في 1985، لم يعد مقنعاً بسبب شيوع ممارسات لا تنتسب إلى الأداء الديمقراطي الذي يتمثل بممارسة تهجس بالصالح العام والرقي بالكويت وتثمير منجزاتها. وهذا نائب يرى أن سببي الخلل العام والملحوظ هما غياب الانسجام الحكومي، وحدة النواب، فيما تجد وزيرة الصحة السابقة الدكتورة معصومة المبارك، وهي التي كانت تجربتها مؤلمة في موقعها وزيرة، واضطرت إلى الاستقالة في آب/ أغسطس الماضي بعد تصعيد كلامي وتهديد بالاستجواب في مجلس الأمة، تجد المبارك أن تجرؤ بعض النواب أخل في التوازن الذي يحققه الدستور الكويتي بين صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية، وترى أن دواء هذا الخلل يكون في الالتزام بالدستور والحزم الصارم بشأن أي تعسف من أي من السلطتين نحو الأخرى، تحقيقاً للتعاون. وتنتقد معصومة المبارك التي كانت أول امراة تتولى منصباً وزارياً في بلادها ما تسميه «أسلوب إدارة الديمقراطية الخاطئ» في الكويت، وتنتقد النهج النيابي الذي يأخذ رغبات الناخبين في الرخاء المالي ومطالبهم على محمل التقديس، ويسعى لفرضها على الحكومة، من دون مراعاة للمصلحة العامة ولتأثيرها على الوضع المالي للدولة والتنمية، بحسب تعبيرها.

وبالنظر إلى أن اختلاط العوامل التي تتحكم بمجتمع تقليدي من ناحية القيم والممارسات والقناعات الموروثات مع حضور الأطر المؤسسية والمواضعات القانونية التي تعد مدنية وعصرية، فإن الكويت ظلت، على الرغم من مسار هذين الجناحين منذ نحو 45 عاماً، محكومة لمفاعيل القيم الاجتماعية والانتماءات القبلية، أكثر مما حكمتها أصول الممارسة الديمقراطية وقواعد التحديث السياسي. ويرى الباحث الدكتور إبراهيم البيومي غانم أنه على الرغم من تحقيق التجربة الكويتية بعض الإنجازات على صعيد إرساء دعائم الحكم الدستوري النيابي، وتقنين الحريات العامة، وتوفير مساحةواسعة لممارستها عمليا، وتشكيل المجالس النيابية والبلدية بالاقتراع الدوري المباشر، وبمشاركة المرأة مؤخراً ترشيحاً وانتخاباً (وعدم فوزها في الوقت نفسه)، على الرغم من ذلك كله فإن خطوات واسعة ما زالت تفصل الكويت عن قيم ومؤسسات الحداثة السياسية، و منها تغليب المصلحة العامة على الخاصة، والمنافسة الانتخابية على أساس البرامج والأفكار لا على أساس الأشخاص وانتماءاتهم القبلية أو الطائفية أو المذهبية، وإقامة علاقة متوازنة بين السلطات على قاعدة الفصل بينها، خصوصاً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وحماية الحريات العامة وليس تقنينها فقط.

يجوز الاستناد إلى هذه الحيثيات في تفسير اتصاف العلاقة بين الحكومات الكويتية ومجلس الأمة منذ الستينات بالتوتر الدائم والحذر المتبادل بين الطرفين، ومن اليسير أن يلحظ المراقب هذا الأمر بين الحكومة والبرلمان الحاليين، وكذلك المجلس الذي انتهت ولايته في 2003 قبل حل الذي تلاه وتنظيم انتخابات المجلس الحالي، فقد تعرضت الحكومة في أثنائه إلى العديد من طلبات الإحاطة والأسئلة، وتعرضت إلى ثلاثة استجوابات متتالية. ويمكن للمراقب أن يذهب إلى أن العيب ليس أبداً في استخدام النواب الكويتيين حقهم القانوني في مساءلة الحكومة ومحاسبتها عبر أدوات الرقابة البرلمانية، لكنه في المبالغة والتعسف في استخدامهم هذا الحق، وسعي بعضهم إلى الإثارة وإلى افتعال البطولات في إحداث تأزيم سياسي ما أن يمضي حتى يحضر غيره، ومن النواب من يتدخلون فيما لا يعنيهم من تفاصيل تدخل في صلب عمل وصلاحيات الحكومة.

تندرج زوبعة استجواب وزيرة التربية والتعليم الكويتية نورية الصبيح في الثامن من الجاري وطرح الثقة بها في تصويت يوم الأحد المقبل20 الجاري، ولم تمضِ غير أسابيع على تشكيل الحكومة الحالية في أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تندرج في السياق العام لمشهد التنافر شبه الدائم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية هناك، وهو ما صار ملحوظاً تعمده أحياناً، و«غير مجد»، بحسب توصيف أمير الكويت له. وفي البال أن وزير النفط بدر الحميضي كان قد أجبر على الاستقالة بعد ثمانية أيام فقط على توليه منصبه.

هل يعكس هذا الحال صراعاً بين تيار داعم لديمقراطية وآخر يعمد إلى تشويهها؟، هل تحسين التجربة الكويتية وحمايتها يتم بالاستجابة لمطالب إجازة قيام الأحزاب، فيكون هناك التزام حزبي ومواقف سياسية محددة وواضحة ومقيدة في حدود برامج معلنة، وتشكيل حكومة مدعمة بغالبية نيابية تصد عنها الاستجوابات، أو الاستفزازات على الأصح، من قبيل الذي جرى للوزيرة «الظافرة» نورية الصبيح؟. هي أسئلة مطروحة، وأحياناً بصوت عال في الكويت، والإجابات عنها هناك، وليس في مكان آخر.

الصبيح تصمد أمام رابع استجواب لوزير تربية
 
17-Jan-2008
 
العدد 10