العدد 68 - حتى باب الدار | ||||||||||||||
تهافت المهتمون بالثقافة والعلوم في هذا العالم على أخبار من نوع: عُثِر على ورقة بخط يد فلان» أو من نوع «بيعت بالمزاد العلني نسخة يدوية من مذكرات فلان أو أوراقه الشخصية»، وما يماثلها من أخبار جذابة. ربما كنا الآن نعيش آخر هذه «التهافتات»، إذ لن يستطيع أي مفكر أو كاتب مهما علا شأنه، أن يطمح بأن يتهافت أحد على «متبقياته» الكتابية اليدوية بعد مئة سنة مثلاً. ببساطة لأنه لن يكون فرق بين (سي.دي) أو (يو. أس. بي) أو «كي بورد» استخدمها شخص أو آخر. كبسة زر لوحة المفاتيح لا يضاف اليها شي خاص، حتى لو تعددت الأصابع التي ضغطت، والحرف الظاهر على الشاشة أو المحفوظ على أية «سوفت وير» أو «هارد وير» لا يحمل أية لمسات شخصية تمثل الشخص الذي قام بالضغط عليها، ولا يختلف ناتج تلك الكبسات، سواء كانت من يد باحث كبير أو روائي عظيم أو كانت من يد طفل يعبث بجهاز والده. باختصار، ستختفي عبارة «بقلم فلان» من دون أن يحل مكانها عبارة «بكبسة فلان». رحم الله السيد بيك BIC الذي اخترع قلمه الشهير وسماه على اسمه، وقد مات في تسعينات القرن الماضي بعد أن مكن الفقراء من حيازة قلم لا تمحى كلماته بسهولة أي قلم حبر، فقبل قلم السيد بيك ذي الحبر الجاف، كانت أقلام الحبر تملأ بالحبر السائل، وكانت حيازتها تقتصر على التلاميذ من أبناء علية القوم، اما كتابة الآخرين فقد كانت بقلم الرصاص الذي يسهل محو أثره. شكراً بالمناسبة لتلك القطعة البلاستيكية اللينة، التي كانت مثبتة في مؤخرة قلم BIC فقد كنا نداري بواسطتها انفعالاتنا ونشحذ تفكيرنا عن طريق قيامنا بقضمها بأسناننا، وعندما كانت تُخلَع من مكانها تحت تأثير القضم المستمر عند مواجهة سؤال صعب في الامتحان، كنا نحس أن القلم فقد جزءاً من هيبته. لكن التفكير والحيرة أمام السؤال لا تنتهي والحاجة للقضم تبقى مستمرة، فننزع أنبوب الحبر الداخلي البلاستيكي الشفاف ونبدأ بالقضم وصولاً الى النقطة التي وصلها الحبر، ولا مانع احياناً من بعض التذوق من هذا الحبر غير اللذيذ اطلاقاً. قلم المرحوم BIC لم يكن للكتابة والقضم فقط بل كان مؤشرا للنضج، فهو أول قلم بغطاء نحوزه، وغطاء القلم ذاك هو ما كان يمكننا من تعليقة في الجيبة العلوية للقميص أو الجاكيت، وتلك لحركة لا تجوز الا للناضجين. شكراً لأصدقائنا الصينيين الذين مكنوا مئات الملايين من الفقراء طيلة أكثر من نصف قرن مضى ،من حيازة أقلام ومساطر ومحايات رصاص ومحايات ثنائية المفعول (جهة للحبر وثانية للرصاص) وأقلام الألوان الخشبية و”الدهنية” وأصابع معجون وأقلام “الكوبيا”.. ذلك القلم السحري الذي يشبه قلم الرصاص فإذا طاله بلل تحول رصاصه الى حبر لا ينمحي حتى باستخدام المحاية ثنائية المفعول، ولا حتى بالمحاية الشعبية التي كنا ننتجها في البيوت ،عن طريق نقع أي قطعة مطاطية بالكاز لمدة يوم كامل فتتضخم وتتحول الى ممحاة عظيمة. الطريف في الأمر أننا في الأردن كنا نستخدم كل تلك الأدوات الصينية ولم نكن نعترف بالصين، فقد كنا من البلدان التي لا تعترف إلا بالصين الوطنية “تايوان”. الأطرف من ذلك أن اليساريين وخاصة الشيوعيين كانوا بدورهم لا يعترفون بالصين بسبب من خلافاتها مع السوفييت، ويكتبون المقالات عن النزعة “الشوفينية” لدى القيادة الصينية، والغريب أنهم كانوا عادة ما يكتبون تلك المقالات بأقلام تصنعها الصين الشعبية. الصينيون ما زالوا لليوم يصنعون تلك الأدوات ب الشكل نفسه والهيئة ذاتها و بالسعر القديم في بعض الأحيان، ليس لغايات الحفاظ على الفلكلور، بل لأن فقراء كثيرين في هذا العالم ما زالوا يطلبون تلك الأدوات، رغم أنهم اليوم يعرفون أن أحداً لن يتهافت على ما تخطه أو ترسمه أيديهم بتلك الأدوات. |
|
|||||||||||||