العدد 68 - ثقافي | ||||||||||||||
السجل - خاص هو ذا محمود درويش يتجدَّد كما طائر الفينيق في معرض «جواز سفر» النابض بالحياة، ليؤكد أن الموت لا يمكنه النيل من القصيدة، ولا أن يطوي صفحة صاحبَها. المعرض الذي نظمته دارة الفنون، بالتعاون مع مسرح البلد وغاليري المحطة برام الله، في ذكرى ميلاد درويش (10 آذار/مارس)، ضم زهاء 30 عملاً لفنانين فلسطينيين شاركوا في تظاهرة فنية كُرّست لتقدير مكانة درويش العالية، واستلهام حضوره الذي ما زال مؤثراً رغم الغياب. إلى جانب الأعمال الفنية، حضرت كلماتُ درويش، بإيقاعها الغاوي الذي تحضر فيه الأرضُ والمشاعر، ويتجلى الحبُّ، وتصفو الصورة: صراخٌ وقنابل وغضبٌ ثم ترقْرُقٌ صافٍ؛ إذ يطلب درويش المغفرة من تفاحة المرأة ليدخل في «سدوم العتيقة»، ومن كلماته ينجز أحمد كنعان منحوتته التي تذكّر بآلهات الحب والجمال والخلود. درويش الذي حمل القضيةَ الفلسطينية في قلبه ما يزيد على نصف قرن، فسكنت أبياتَه الثورةُ التي كانت تسكنه ليكتب سيل قصائد عنها، وعن فلسطين التي وُلد فيها وترعرع، وأُرغم على تركها، وناضل ليعود إليها، ثم يُنفى منها، يظل يرنو إلى فلسطين ليبصرها «نجمة ترنو إليه» تارة، وقبراً تارة أخرى، ثم يلجأ لمرآته ليرى فيها «غريباً مثله ينظر إليه»، ومن وحي كلماته تبدع دينا غزال تمثالاً من الخزف لرجل وامرأة يبدوان منفصلَين رغم تعانقهما، وهي الحال التي عبّر عنها درويش، حين ظلت فلسطين تسكن جوار قلبه، وظل هو مطروداً من نعيم أنوثتها. استحق درويش بجدارة لقب «شاعر فلسطين»، وحظي بمحبة الشارع العربي الذي كان يرى في كلماته روحاً ثورية في وجه المحتلّين الذين وصفهم بـ«عابرون في كلام عابر»، واستشرف مستقبلهم، قائلاً: «كالغبار المرِّ مروا أينما شئتم، ولكن لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة»، لأن: «لنا في أرضنا ما نعمل، ولنا قمح نربّيه ونسقيه ندى أجسادنا».. اللوحة المستوحاة من هذه القصيدة كانت لعبد الرحمن المزين، وهي مشغولة بالحبر على الورق، وتصوّر نسراً فلسطينياً مكبّل الأجنحة والقدمين تسنده مقاطع كُتبت من شعر درويش، وينطوي الفلسطينيون، نساء ورجالاً، تحت جناحَيْه مانِحِيه طاقةً ليواصل بها الحياة. هكذا كان درويش، يحبّ الحياة ما استطاع إليها سبيلاً، وأعلن في قصيدته «جدارية» التي تُرجمت للفرنسية، أنه لا يريد البنفسج على قبره، لأنه «زهر المحبطين»، بل يريد: «سبع سنابل خضراء» و«شقائق النعمان»، كي تتجددان حياةً كل عام. من أجواء «جدارية»، طرّزت رنا بشارة رغيفَ خبز، وكتبت وسطه بالقهوة كلمة «البروة»، مسقط رأس درويش المولود العام 1941. لأن درويش كثير «السفر»، فليس غريباً أن ترافقه الحقيبة التي كان يودعها أحزانه مثلما يضع فيها فرشاة أسنانه وصابونته، و«ماكنة الحلاقة، والكلونيا، والثياب»، ويختبر في ظلها الحياة التي خاطبها ذات مرة قائلاً: «سِيري ببطءٍ، يا حياةُ، لكي أَراك، بِكامل النقْصَان حولي. كم نسيتُكِ في خضمِّكِ باحثاً عنّي وعنكِ. وكلَّما أدركتُ، سرّاً منكِ قُلْتِ بقسوةٍ: ما أَجهلَكْ!». هذه القصيدة كانت ملهمةً للفنان إبراهيم نوباني الذي قدّم لوحة من الإكريليك تتشعب على سطحها خطوط سوداء وحمراء مفزعة، كأنها متاهة. «جواز سفر» الذي افتتح في مؤسسة خالد شومان بمشاركة 27 فناناً فلسطينياً، هو أيضاً واحد من محتويات الحقيبة الدرويشية، وهو كذلك يعلن عن الهوية الفلسطينية التي طالما تساءل عنها الشاعر مؤكداً: «الهوية هي ما نُورِثُ لا ما نرث. ما نخترع، لا ما نتذكر. الهوية هي فساد المرآة، التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة!»، ومن وحي القصيدة أبدع طالب الدويك لوحته «وجوه» المكونة من مواد مختلفة. كذلك، يبحث درويش الذي عاش طفولته في بيروت محروماً من «الجنسية»، عن معنى الهوية، فيكشف: «ولا أَتذكَّرُ في أيِّ أرضٍ وُلدتِ، لا أَتذكَّرُ من أيِّ أرضٍ بُعثتُ»، ومن هذه الكلمات قدمت فيرا تماري لوحتها «رقصة» مستخدمة أحباراً مائية وأقلاماً شمعية على قماش. الحياة التي كانت في نظر درويش مثل «حالة حصار»، يحاول التفلُّت من إسارها بوصفها قوة لا تُقهر، ليجد في النهاية أنها ضعيفة ومنكسرة، تُساءلنا: «كيف نعيد إليها الحياة؟»، وهي فكرة عبّرت عنها لوحة الإكريليك لبشار الحروب التي تشكّل ما يشبه سديماً كونياً أبيض، تطل من جانبه العلوي فوهة سوداء تسيل الألوان عليها فتزيدها شحوباً وخوفاً. لوحتا بورترية لدرويش كانتا حاضرتَين في قلب المعرض، الأولى أنجزها محمد أبو ستة بالفحم، والأخرى نفذها محمد صالح خليل مستخدماً ألوان الإكريليك على القماش، بينما توسطت صورةٌ مطبوعة لدرويش لوحةَ نبيل عناني، وفي فضاء اللوحة حُفرت كلمات قصيدته «في حضرة الغياب»، وبما يشبه شريطاً سينمائياً يبدأ بالبياض قدّم خالد حوراني «الجدارية» التي تتراصّ فوقها أشعار درويش، وتنتهي بصفحة من سواد. المعرض الذي تكاتف الفنانون لإنجازه بعد رحيل درويش، أكد نبوءة صاحب «أثر الفراشة» حين قال: «هزمتُكَ يا موتَ الفنون جميعها، هزمتُكَ يا موت الأغاني في بلاد الرافدين». |
|
|||||||||||||