العدد 67 - الملف
 

عطاف الروضان

«أتذكر في الثمانينيات، أن أحدهم كان، على الدوام، يصر على أن يصبغ دائرة اسم مليح على اللوحة التي تقابلنا بعد الخروج من مادبا باتجاه قرية مليح، باللون الأحمر. وقد عرفت في ما بعد أن في ذلك دلالة على أن هذه القرية هي «موسكو الأردن »، كما كان يطلق عليها من باب التندر ». هذا ما يذكره إبن مليح، الكاتب سعود قبيلات، رئيس رابطة الكتاب الأردنيين الذي لم يلبث أن انضم بدوره إلى الحزب، مثل العديد من أبناء القرية، وعلى خلفية هذا الانضمام دفع من عمره سنوات في السجن.

معلومة سعود هذه غير مؤكدة، وإن كانت ممكنة، كما يقول الكاتب الصحفي يوسف غيشان «نظراً لطبيعة الامتداد الحزبي في المنطقة، الذي استغل العشائرية لحشد التأييد من الأقارب والمعارف .»

ويرى غيشان أنه حتى لو لم يأخذ التنظيم الحزبي في مليح طابع الامتداد الجماهيري، فإنه بالتأكيد يروي قصة عائلات تبنت فكراً واعياً ونيراً، ورغم عدم انتشاره بالحجم المطلوب، فإنه انتشر أكثر من مادبا المدينة التي يغلب على سكانها الطابع المسيحي المثقف .»

يمكن تعميم الحالة نفسها على منطقة لب، التوأم الجغرافي والثقافي لمليح. قريتان وادعتان في لواء بني حميدة، يفصلهما حوالي 13 كيلو متراً عن مدينة مادبا، بقدر تشابك وامتداد بيوت سكانها الذين يناهز عددهم 15 ألف نسمة على تلال عدة، تلونت ميول أبنائهما بين أفكار وتيارات عدة، فبالإضافة إلى الحزب الشيوعي هناك امتداد واضح للأخوان المسلمين، وحزب البعث الاشتراكي، والجبهة الديمقراطية (حشد)، والحزب القومي السوري الاجتماعي.

ويعزو سعود قبيلات هذا التلون والانفتاح إلى مشاركة بعض أبناء البلدة في حرب فلسطين العام 1948 متطوعين مع المقاومة ضد العصابات الصهيونية، «العديد من أبناء الشهداء في هذه الحرب من أبناء القرية أصبحوا شيوعيين فيما بعد »، كما يقول. وبفعل القرب الجغرافي أيضاً كان اللواء قد استقبل بعض أبناء فلسطين أثناء مجاعة العام 1929 حيث تشاركوا واندمجوا في الهم والتاريخ. وتعود الذاكرة بالكاتب قبيلات للعام 1979 ، سنة اعتقاله لانضمامه للحزب الشيوعي أثناء دراسته في الجامعة عندما كان العمل الحزبي محظوراً، يقول قبيلات: «عند اعتقالي، جاء

انضمام عدد كبير من الشباب والصبايا للحزب كردة فعل، وهو ما فتح المجال لاحقاً أمامهم للتفكير جدياً بمبادئ الحزب والإيمان بها .» وهذه حقيقة أكدها جميع من تحدثنا معهم من شباب المنطقة.

ويتابع قبيلات: «فوجئت عند خروجي بوجود تنظيم كبير للحزب يضم هذا العدد من الرفاق ». لم يحدد قبيلات العدد بدقة، ولكنه وصفه بأنه «كبير ومتنوع من الجنسين وبعلم أهاليهم أيضاً »، كما يقول. قرية مليح، والحال ينطبق كذلك على لب، تختلف عن بقية المناطق في الأردن، بأن الميول العشائرية فيها أضعف من الميول الحزبية التي تلعب دوراً أوضح في الانتخابات البلدية والبرلمانية، وحتى انتخابات جمعية تعاونية، وعادة ما يظهر التنافس الحزبي فيها بشكل أوضح بين الحزب الشيوعي والإخوان المسلمين، كما يرى الكاتب قبيلات، ويستدرك، «الأفكار الحزبية ما زالت موجودة، ولكن بوتيرة أقل بكثير مما كانت عليه في الثمانينيات، حيث كانت تتسم بالحدة والتنافس العلني .» الكاتب الصحفي علي السنيد، أحد أبناء

لب، يتفق بالرأي مع قبيلات، ويضيف أن «التنافس بين الإسلاميين والشيوعيين برز في تلك الفترة، وفيما توجه العديد من الشبان الشيوعيين إلى الدراسة في الاتحاد السوفييتي، توجه الإسلاميون إلى البلديات، أما الآن فهما في حالة توافق إلى حد ما .» ويتذكر السنيد الذي سبق وأن سجن أربع مرات بتهم إطالة اللسان، أن الوعي الحزبي والثقافي تشكل لديه، كما هي الحال لدى أبناء القريتين، في المدرسة التي كانت مسرحاً لتنافس المعلمين المنقسمين بين الحزبين «الإخوان والشيوعي .»

ويتابع السنيد: «عندما انتقلنا إلى الجامعة كان من النادر ألا ينضم جامعي من المنطقة إلى تنظيم الحركة الطلابية التي كانت ناشطة، بالتحديد في الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك”، ويروي أنه «بعدد تقريبي يناهز 200 طالب، أنشأنا اتحاد شباب وجمعية. وكذلك أنشأنا منتدى ميشع الذي تم حله العام ،»1997 وفي العام نفسه اعتقل السنيد لأول مرة. ويرى السنيد أن غياب النماذج الناشطة حزبياً وسياساً، كما كان الحال في السابق، هو ما سبب التراجع الحالي للشباب في المنطقة. وهو يعمم الحالة على مختلف مناطق المملكة.

ويعزو السنيد الإقبال الكبير لأبناء المنطقة على التعليم، بأنه «لا فرص أمامهم إلا بالتعليم »، لكنه في الوقت نفسه، يعد التحدي الأكبر لهم، فالرسوم الجامعية باهظة وتلتهم دخول الأهالي المتدنية أصلاً؛ «تكاليف دراسة طالب جامعي سنوياً تصل إلى 1500 دينار، والدخول هناك تتراوح ما بين 1000 – 2000 دينار سنوياً .» الفقر، وتواضع فرص التنمية في القريتين، كما هي الحال في المنطقة، يعد تحدياً آخر أمام أهلها، ويعطي السنيد مثالاً على ذلك بانقطاع الكهرباء المتكرر منذ عشر سنوات، وتحديداً في فصل الشتاء، الذي يحول المنطقة إلى «مدينة أشباح »، وهو ما يقف عائقاً أمام أي مشروع تنموي، كما حصل مع مركز الشباب الذي أنشئ العام 2006 وهو الآن خاو بسبب تلف الأجهزة، كما يؤكد. غياب التمثيل الرسمي لأبناء القريتين تماماً؛ نواب، أعيان، وزراء، أمناء عامون، مدراء، يعتبره السنيد مؤرقاً، إلا أن غياب الاهتمام الرسمي بالمشاريع التنموية يعد مؤرقاً أكثر، كما يقول، «مثلاً، رغم جمال وأهمية منطقتي الواله والمهيدان وتوافد مئات العائلات إليها للنزهة في فصل الربيع، تغيب عنها أي منشأة سياحية أو بنية تحتية مهما كانت بسيطة .»

ويتفق معه في هذا الطرح فارس بريزات، الذي يقول إنه لا توجد مشاريع مستدامة في المنطقة، تحييها، وتوفر فرص عمل وعيش كريم لأهلها، وتستفيد من الميزة الزراعية للمنطقة، بدعمها تسويقياً ورعاية حكومية، «فهي منطقة واعدة إذا ما استغلت الموارد البشرية المميزة فيها بشكل صحيح .» لب، ومليح، كانتا المحطة الأولى في زيارة للملك عبدالله لمادبا أخيراً، حيث افتتح مدرسة مثلث مليح الأساسية المختلطة، ومركز شباب

مليح، ومجمع مادبا الرياضي. المجمع يضم صالة رياضية متعددة الأغراض مجهزة بجميع التجهيزات الرياضية، كما يضم مدرجا يتسع لنحو 1500 شخص، إضافة إلى ملاعب للسكواش، ومباني للخدمات العامة وقاعات ومكاتب إدارية. أما مركز الشباب الذي بُني على قطعة أرض مساحتها 750 متراً مربعاً وبكلفة 732 ألف دينار، فيشتمل على صالة متعددة الأغراض مزودة بأجهزة لياقة بدنية، وطاولات تنس، ويمكن استخدامها صالة اجتماعات واحتفالات ومكتبة وقاعة محاضرات. وربما يأتي هذا التوجه استجابة إلى مطالب متكررة لمزيد من الاهتمام والاستثمار في أبناء المنطقة، وهو طرح تؤكده الناشطة علياء بريزات 24 عاماً، التي تقول إن تعزيز ذلك يأتي بالاهتمام بالتعليم ونوعيته، بشراكة حقيقة بين الحكومة والأهالي ومؤسسات المجتمع المدني في المنطقة.

العمل الأهلي المنظم موجود، ولكنه متواضع، فهناك ثلاث جمعيات تعاونية، وأربع مؤسسات مجتمع مدني «جمعية مليح، شابات مليح، لب الخيرية، البيدر »، تساهم في زيادة التفاعل بين أفراد المجتمع، وتحاول خلق فرص عمل مناسبة للأهالي هناك. باستثناء الجمعيات التي توقف أو جمد نشاطها لأسباب عدة، ترى بريزات أن غياب الوعي بأهمية العمل التطوعي، وغياب العائد المادي فيه، يمثل أحد العوامل لتراجعه في القريتين وفي الأردن بشكل عام، رغم أن الأهالي يتمتعون بالانفتاح والمرونة «ربما بسبب جذورهم البدوية » تتساءل. انفتاح أهالي لب ومليح وتقبلهم للآخر بغض النظر عن أفكاره وميوله، أمر تلمسه بسهولة. وفي اليوم الذي قضيناه هناك عرفنا سبب اعتياد البعض في السابق على وضع تلك النقطة الحمراء أمام اسم قريتهم، فلعلها تعني أيضاً إنذاراً لوطن بأن هناك في هذه القرى البدوية طاقات مخزنة تنتظر الإفراج عنها.

الهوى العشائري أضعف من الحزبية لب ومليح: توأمة في الجغرافيا وميول الفكر والسياسة
 
12-Mar-2009
 
العدد 67