العدد 67 - الملف | ||||||||||||||
دلال سلامة لم يعد كثيرون يؤمنون بالحسد هذه الأيام، لهذا لم يعد حنا حنانيا، صائغ الفضة في مادبا، يصنع التعويذات التي اعتادت الأمهات تعليقها في ثياب الأطفال لترد عنهم العين، وهي دبوس يحمل ضفدعة وسلحفاة وحرذونا. تعويذة الحسد ليست الأمر الوحيد الذي كف حنانيا عن صنعه، فصاحب المشغل الوحيد في المدينة، والذي يعمل في المهنة منذ العام 1959 ، لم يعد يصنع «زناك السبعة أرواح »؛ الليرات العثمانية التي تشبك في صفوف في نوع من الطرابيش النسائية، كانت تسمى «شطوة بيت لحم » ووزنها الكلي كيلو غرام، لهذا كانت مخصصة للنساء من عُلية القوم. وهناك اللوزة التي كانت النساء يتخذنها حلية، فيعلقنها في سلسال، وفي الوقت نفسه يستخدمنها مكحلة. إضافة إلى إسوارة دقة حنا، التي تعتبر ماركة مسجلة لحنا، الجد الأكبر الصائغ الأول في عائلة حنانيا. حنا الذي يصف نفسه بالشخص «الأفقر في عائلة حنانيا »، ظل حتى العام 2000 يعمل في محله بالطريقة اليدوية، أي مستخدما الكير والمنفاخ، إلى أن استطاع إدخال الآلات الحديثة، وهذا مكنه من التعاون مع مركز «إرادة » التابع لوزارة التخطيط، حيث يقوم بتدريب فتيات على صياغة الحلي الفضية. وقد تخرجت على يديه من المركز قبل شهرين 10 طالبات. وهو، كغيره، يشكو الكساد، فليس في محله سوى عدد قليل من المشغولات الفضية، ولكن الواجهات مع ذلك مغطاة بكثير من الصور، صوره في شبابه، وصور كبار الشخصيات التي زارت محله ذات يوم واشترت منه، مثل: الأمير عاصم، وسناء عاصم، والأميرة غيداء. ويتذكر كيف ذهب مرة إلى قصر الملك الحسين، ورمم تمثالاً للجندي المجهول مصنوعاً من البرونز. صانع البسط اليدوية سامح المعايعة، الذي ورث المهنة أبا عن جد، يبدو أنه سيكون الحلقة الأخيرة في تلك السلالة، ذلك أنه لم يعلم المهنة لأولاده، وتركهم يختارون طرقا أخرى في الحياة. سامح يمتلك في مادبا محلا لتسويق البسط التي يمتهن صناعتها منذ الخمسينيات مع عائلته، إلى أن افتتح محله الخاص العام 1963 ، وهو يشبه المهنة باليانصيب، ويقول إنها لم تعد تساوي تعبها، ولكن «شخصا بعمري، هل لديه شيء آخر يعمله؟ » يشتري معايعة الصوف من أصحاب الحلال، في موسم جز الصوف في أوائل الصيف، ويقوم بصبغه يدويا، ثم يأخذه إلى نساء من القرى المجاورة لمادبا حيث يقمن بغزله، ويعدنه إليه ليقوم بنسجه. تصاميمه تتنوع بين التصاميم الحديثة البسيطة، والتقليدية القديمة، وهي تصاميم في الغالب معقدة، وتحتاج إلى مجهود إضافي، لذلك يكون ثمنها مرتفعا، ولكنها ما يقبل عليه الأجانب الذين كان كثير منهم أوفياء لمحله «قبل فترة جاء إلى المحل سائح ألماني، أخبرني أنه قبل 30 سنة جاء إلى مادبا واشترى من محلي .» يشير معايعة إلى النقوش التقليدية التي تحملها البسط، ويقول إن هذه النقوش التي تبدو للرائي بلا معنى هي رموز مغرقة في القدم، ولها دلالات «أنا لا أعرف بالضبط معنى كل واحد منها، ولكنني قبل سنوات شاركت في معرض نظمه المركز الثقافي الفرنسي، وفوجئت بهم يعرضون كتابا يحتوي على النقوش نفسها التي أمضينا أعمارنا ونحن نضعها في البسط، وإلى جانب كل واحد منها شرح يحكي دلالتها .» زبائن سامح من الطبقات العليا في الغالب، فهؤلاء من يستطيع دفع الثمن المرتفع لهذه المشغولات «الأسعار مرتفعة لأن البسط تتطلب جهدا ووقتا كبيرين، مثلا بساط مساحته متر في مترين يحتاج إلى 56 ساعة عمل .» يتذكر معايعة كيف جاء الملك عبد الله الأول وأخوه الأمير فيصل إلى محله عندما كانا طفلين ليتفرجا على طريقة صنع البسط، وشرعا باللعب بالنول. الفسيفساء، واحدة من العلامات المسجلة لمادبا. وكان إنشاء مدرسة لتعليم فن الفسيفساء هو الإنجاز الأكبر للمدينة، حيث قامت الحكومة الإيطالية العام 1992 بتأسيس مدرسة تقبل الطلاب الذين أنهوا الصف السابع، وتمنحهم شهادة الثانوية حيث كانوا يتعلمون اللغة الإنجليزية، فن صناعة وترميم الفسيفساء وتقنيات صيانتها، وآثار الأردن. من الفترة الممتدة من العام 1992 إلى 2006 ، كان قد سجل في المدرسة ما يزيد عن 1500 طالب، ولكن الذين تخرجوا منها لم يزيدوا على 300 طالب. إلى أن تم تحويلها العام 2006 ، بالتعاون مع الحكومة الإيطالية والوكالة الدولية للتنمية USAID إلى معهد يمنح الدبلوم العالي في فن ترميم الفسيفساء. مدير المعهد خلف الطراونة، يشرح الإشكاليات التي رافقت المدرسة: «كان الطلاب يأتون ويتعلمون أساسيات المهنة خلال بضعة أشهر ثم يتركون المدرسة للعمل في المشاغل الخاصة، ولكنهم لم يكونوا يدركون أن هذا لم يكن كافيا، وأن الفرق بينهم وبين من يدرس العلم على أصوله هو الفرق بين ميكانيكي السيارات ومهندس الميكانيك .» بلال الصدوق، يعمل في المهنة منذ عشر سنوات، في المشغل الأول في مادبا الذي أنشئ العام 2002 ، على يد اثنين من أوائل الخريجين من مدرسة الفسيفساء، وهما: زياد عزيز، ويوسف أبو فردة، الذي توفي العام الماضي في حادث سيارة، وما زالت صورته معلقة بوفاء في صدر المحل. يقول بلال إنهم يستخدمون في المشغل الرخام الذي يجلبونه من الجنوب مثل: معان والكرك والرويشد، والحجارة النارية التي يأتي بها من منطقة البحر الميت، وألوانها الطبيعية هي: الأحمر والأصفر والفيروزي، وهم يقطعونها يدويا، ويرسمون لوحاتهم عليها بالكامل بطريقة يدوية. التصاميم تتنوع بين قديمة يتم نقلها من لوحات أثرية، وتصاميم حديثة. الأكثر مبيعا هي التصاميم القديمة التي تمثل نماذج مثل شجرة الحياة وشجرة مادبا، وملكات مادبا الثلاث: مادبا وليجوريا وباهاما. المهنة، كما يقول بلال، صعبة جدا، فلوحة قياسها 40 في 30 تحتاج من 24 ساعة عمل إلى 36 ، بحسب تعقيد التصميم، والثمن، ويتفاوت وفق عوامل مثل تعقيد التصميم وحجم اللوحة ودقة الصنعة، وهي أمور يقول بلال إن كثيرين لا يقدرونها، ما فتح الباب لدخول الكثير من البضائع الدخيلة التي أثرت سلبا عليهم: «لوحات الفسيفساء السورية تملأ الأسواق، الواحدة منها تباع بعشرة دنانير، في حين أنني أبيع مثيلتها ب 25 دينارا. والناس لا ينتبهون إلى أنها شغل ماكنات، وملصقة بالغراء، ويمكن أن تتلف بسهولة .» العمالة الدخيلة غير المحترفة أنزلت الأسعار، فبلال الذي كان قبل 6 سنوات يشتغل متر الفسيفساء ب 450 دينارا، صار يشتغله الآن بنحو 200 دينار. نضال جميل، صاحب مشغل لتعبئة زجاجات الرمل الملون، تعلم المهنة قبل 12 في البتراء عندما عين هناك مساحاً، ولكنه بعد سنة عاد إلى عمان، وترك مهنة المساحة، ليعمل ست سنوات في تعبئة زجاجات الرمل في منطقة جبل نبو، ولكن وزارة السياحة منعته وآخرين من مواصلة العمل هناك، فافتتح محلا له في مادبا، ولكن تلك لم تكن سنينه الذهبية. نضال يجلب الرمل من العدسية، وأحيانا يأتي بالحجارة ويطحنها، ويقوم بنخلها في مناخل دقيقة جدا، حيث يستهلك نخل الدلو من الحجم العادي ثلاث ساعات، ثم يقوم بصبغها، ونخلها مرة أخرى ثم يقوم بتعبئتها. هذا الجهد لم يعد يتناسب مع المردود المادي، فزجاجة الرمل التي كانت تباع قبل 12 سنة على جبل نبو بخمسة دنانير، صارت تباع الآن بدينار، وأحيانا تنزل إلى دولار، بحسب الموسم. «أشتري الزجاجة الصغيرة بأربعين قرشا من مصانع زجاج في عمان تصنعه من الزجاج المعاد تدويره، ولكن بسبب سوء الحالة صرت أشتري زجاجات المشروب بخمسة قروش لواحدة، لأرفع من هامش الربح قليلا .» انخفاض المبيعات وسوء الحال، لم يمنعا نضال من المشاركة الإنسانية، فهو يقوم في مشغله بتدريب فتيات وشبان من أصحاب الإعاقات العقلية البسيطة تراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والعشرين، مجانا ودون دعم من أي جهة «استجابتهم ضعيفة، ولكنهم في النهاية ينتجون شيئا مقبولا .» استغلال الأدلاء السياحيين هو الشكوى المشتركة بين أصحاب الحرف التقليدية، فهؤلاء يشترطون نسبا تراوح بين 30 و 40 في المئة من المبيعات شرطا لجلب المجموعات السياحية، أصحاب الحرف يقولون إنهم لا يستطيعون دفع هذا المبلغ، ومن يستطيع دفعه هم أصحاب محلات بيع التحف الكبرى التي تبيع بأسعار مبالغ فيها، مستغلة جهل السائح وثقته بالدليل. |
|
|||||||||||||