العدد 67 - الملف | ||||||||||||||
منصور المعلا تعود صيرورة مدينة مادبا إلى ثلاثة مواسم من الهجرة المكثفة، تمت أولاها عبر الطريق السلطاني من ضفة وادي الموجب الجنوبية إلى الشمالية، وقادها تجار ومزارعون من مسيحيي الكرك في أواخر القرن التاسع عشر حيث حطوا رحالهم على التل المطل على سهول تسكنها قبائل بدوية تمتهن الرعي. في الذاكرة الجمعية لأبناء المدينة هجرات لاحقة، كانت أبرزها هجرة العام 1948 حين استقر عدد من اللاجئين الفلسطينيين في مخيم على أطراف قصبة المدينة، تبعتها مطلع الخمسينيات هجرة أبناء القرى والبوادي المحيطة إلى مركز المدينة. يدلل على ذلك إحصاء غير رسمي يبين أن 30 في المئة من أذون الأشغال في بلدية مادبا التي تضم نحو 160 ألف نسمة تعود إلى أبناء عشائر الحمايدة. القادمون الجدد حملوا معهم حرفتي الزراعة والتجارة وأتوا بهما إلى ما كان يعرف آنذاك ب «خربة مادبا » التي كانت خربة مهجورة منذ قرون، بعد اندثار الحضارات القديمة التي تعاقبت عليها. وقد انحصرت حرفة التجارة في سكانها المسيحيين وآخرين قدموا من الشمال «الشوام .» وتشارك أبناء المدينة في صناعة مدينتهم، على حد تعبير أكرم المصاروة، أحد أبناء العزيزات، كبرى العشائر المهاجرة من الكرك، لتغدو المدينة مثالا على التسامح والتعايش المسيحي المسلم من خلال الشراكة في «الغرم والغنم .» وبحسب السياسي البارز في عهد الإمارة عودة القسوس، فإن عشيرة العزيزات كانت أول المهاجرين من الكرك، وتبعها الكرادشة ثم الحمارنة والمعايعة. تتوزع المدينة ما بين عشائر البلقاء جنوب غربي مادبا، وعشائر بني حميدة من الجهة الجنوبية من حاجب الموجب منطقة مريبجبة الشخانبة إلى الخربة القديمة، ومن الجهة لشرقية الشمالية عشائر بني صخر وبعض عشائر البلقاء، وعشائر العجارمة من الجهة الشمالية الغربية. ولعبت المدرسة والحزب ومؤسسة رعاية الشباب في منتصف القرن الماضي دورا مهما في الاندماج السكاني الذي شهدته المدينة، حيث كانت التركيبة السكانية بمختلف منابتها وشرائحها تلتقي في المدرسة والحزب وفي مؤسسة رعاية الشباب، حيث الاندماج وتجاوز الهويات الفرعية إلى الهوية الوطنية الجامعة، حيث كان التنافس بين مختلف القوى الفاعلة في مادبا تنافسا برامجيا وأيديولوجيا وفي مجال الشباب، حيث كان يلتقي في مدرسة مادبا الثانوية ابن ماعين وابن المخيم وابن القصبة، حسبما يستذكر احد سكان المدينة، وهو اليوم في العقد السادس من العمر. وكان التنافس الرياضي، وخصوصا كرة القدم وتنس الطاولة، مادبيا، حيث كانت تتنافس فرق المدينة مع فرق مدن أخرى على بطولة المملكة. ويخشى سكان مادبا من تغلغل الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وهو أمر عائد إلى أن المدرسة لم تعد تلعب دورا جامعا للمجتمع. يقول أحد أبرز قادة العمل العام في مدينة مادبا، إنه قد «أصبح لكل عشيرة لها مدرستها »، إضافة إلى غياب الأحزاب والأندية ومؤسسات رعاية الشباب، شأنها شأن كل المحافظات، وأصبحت هنالك هجرة كثيفة نحو الهوية الفرعية التي تكرست بسبب قانون الصوت الواحد. غير أن الاندماج الاجتماعي الذي اتكأ على مدرسة اللاتين ومدرسة دار المعارف والأحزاب السياسية والحركة الشبابية طوال عقود، بدأ في التآكل ابتداء من حالة الشلل السياسي الذي عم البلاد طوال العقدين الأخيرين، حيث خبا بريق الأحزاب، وبات لكل عائلة أو عشيرة مدرستها التي يتعلم فيها أبناؤها، إضافة إلى تراجع دور الحركة الشبابية في المدينة. التواصل الاجتماعي تمثل في صيف العام الماضي بتسمية أحد المساجد باسم عيسى ابن مريم السيد المسيح، دليلا على التعايش الملفت بين أبناء المدينة. وفي مسعى للاستجابة إلى دعوة الملك عبدالله الثاني لإطلاق مدينة مادبا نموذجا للامركزية يسعى شراري الشخانبة، الوزير الأسبق، وابن عشائر بني حميدة، كبرى عشائر المدينة، إلى عقد لقاء يجمع نخبة من أبناء المدينة للتحاور حول هذه المبادرة من منطلق أن أبناء مادبا جميعا دون استثناء، شركاء في التجاوب مع هذه المبادرة. ويجمع الرجلان؛ المصاروة والشخانبة، على أن المدينة هي صناعة أهلها، وأن خرائط الفسيفساء التي تزين الكثير من مواقعها الأثرية تعبر عن التنوع الغني للمدينة. وعلى الرغم من الغموض الذي يلف مستقبل المدينة في ظل الحديث عن اللامركزية أو مشروع الأقاليم أو المخطط الشمولي، فإن الرجلين يشعران بنوع من التفاؤل إزاء مستقبل المدينة التي شهدت في وقت سابق مشروعين لتطوير السياحة فيها، وهي الآن على أعتاب مشروع ثالث. ومن بين المتطلبات التي يحتاجها أبناء المدينة ضخ دماء جديدة وشابة قادرة على تحديد أولويات المدينة التي لم تنعم بعوائد التنمية أسوة بغيرها من المحافظات بحسب الشخانبة. |
|
|||||||||||||