العدد 67 - الملف | ||||||||||||||
السجل - خاص من بين أعمدة معابدها وأرصفة فسيفسائها انطلق أوائل المسيحيين صوب بيزنطة وروما، وفي جنباتها تواصل رسل النبي العربي محمد مع رواد الكنيسة الشرقية، في تلاقح قدح شرارة حضارة عربية ذات بعد إسلامي، امتدت أطرافها إلى تخوم الصين وشواطئ الأندلس. إنها حاضرة «أم الرصاص » التي تعرف أيضا بكاسترون ميفعة (kastron – Mafa’a) المترامية على حواف محافظة مادبا، 30 كيلو متراً جنوب شرق مادبا، بمحاذاة الطريق الصحراوية المؤدية إلى العقبة. يعيد مؤرخون تسميتها بالعربية إلى جذر الفعل «رص، يرصّ أو البناء المكتمل جميل الشكل »، فيما تعني »Kastron« القلعة أو الحصن باليونانية. ولقبت المنطقة بهذه التسمية المزدوجة منذ العام 1986 ، عقب أعمال حفريات واسعة نفذّها الآباء الفرنسيسكان بالتعاون مع دائرة الآثار العامة. ووجد الاسم القديم محفورا على فسيفساء أرضيتي كنيستي القديس اسطفانوس والأسود. وأدرجت المنطقة أخيرا ضمن لوائح اليونسكو لحماية التراث العالمي. وهناك مشروع تطوير وترويج لهذه الحاضرة العتيقة بمشاركة وزارة السياحة والاتحاد الأوروبي. كان للآباء الفرنسيسكان أنشطة في الموقع منذ أربعينيات القرن الماضي، حين تعرّف الأب الآثاري باغيتّي على عدد من الكنائس داخل آثار المعسكر وخارجه. أما أعمال الحفريات المنظمة فبدأت العام 1986 ، على يد معهد الفرنسيسكان للآثار بإشراف الأب الآثاري ميشيل بيتشريللو، الذي توفي أواخر العام الماضي، بعد أن ألف كتابا عن كنائس مادبا وفسيفسائها. بحسب المكتشفات الحسيّة ومراجع العهد القديم- بيزنطة- روما-الخلافة الإسلامية، ظلّ هذا الموقع مسكونا منذ العصر الحديدي الثاني (القرن السابع-السادس قبل الميلاد) وحتى العصر العباسي (القرن التاسع ميلادي). ومسح غبار السنين أيضا عن نقوش نبطية )من مملكة بترا التي امتد نفوذها حتى دمشق بعد ميلاد المسيح( وثمودية، تنسب إلى قبائل متنقلة في جنوب الأردن. نشأ «معسكر ميفعة » حصناً رومانياً في القرن الثالث الميلادي، على حافة الصحراء بمساحة نحو (139×158 مترا). ويذكر مصدر بيزنطي أن فصيلة فرسان، تحت قيادة قائد العرب (dux Arabia) رابطت في تلك البلدة. إلا أن هذه النشأة العسكرية الطابع ، لم تحل بين ميفعة - أم الرصاص وبين تحولّها إلى مستقر حضري مزدهر للعرب المسيحيين الذين شيّدوا فيها عدداً من أجمل كنائس الأردن في العهدين البيزنطي والأموي. وتُذكر «ميفعة في أرض البلقاء » عند ابن إسحق، وفي ما بعد ضمن مصادر إسلامية متأخرة، في إشارة لراهب تعرّف على ملامح النبوة في النبي محمد (صلعم). تضم أم الرصاص عددا من الكنائس. على أن أفضلها حالا، بعد عمليات الترميم الحديثة، هي مجمع مؤلف من أربع كنائس؛ هي: الأسقف سيرجيوس، القديس أسطفانوس اللتان تفصل بينهما باحة مبلطة حوّلت في عصور لاحقة إلى كنيسة، وفي الجهة الغربية من المجمع كنيسة رابعة. و يبدو أن هذا المجمع الكنسي ازدهر ما بين القرنين السادس والثامن الميلاديين. كما تم التنقيب في كنائس أخرى في الموقع منها: الأسود، القديس بولص، البرج، الكاهن وائل وكنيستا الأنهر والنخلة. يطالع الزائر للموقع من بعيد، برجا ارتفاعه حوالي 14 مترا يقف مستقلا في باحة كنيسة البرج. ويقترح باحثون أن هذا البرج هو لأحد النساك «العموديين » الذين عُرفوا في بلاد الشام وأشهرهم القديس سمعان العمودي. كما وردت إشارات، في كتابات على الأرضيات الفسيفسائية إلى تنقلهم داخل الأردن، ومنهم « لونجينوس » و «يوحنا ». إلا أن من الأرجح أن يكون هذا البرج مخصصا للحراسة والمراقبة، نظرا لطريقة بنائه المتقنة. تضم كنيسة القديس أسطفانوس، المبنية على الطراز البازيليكي، أجمل وأهم الأرضيات الفسيفسائية في أم الرصاص. وهي تحمل صور مدن رُمز لها بصور مبان محاطة بأسوار، تحف بها نقوش تعرّف المدن؛ وهي ثمان في فلسطين: المدينة المقدسة (القدس)، نيابوليس (نابلس)، سبسطية، قيصارية، ديوسبوليس (اللد)، اليوثيروبوليس (بيت جبرين)، عسقلان و غزة. كذلك تظهر صور سبع مدن في الأردن أولاها كاسترون ميفعة (أم الرصاص)، فيلادلفيا (عمان)، مادبا، إسبونتا (حسبان)، بيلامونتا (ماعين)، اريوبوليس (الربة/ من أعمال الكرك)، وكراك موبا (الكرك)، وليمبون (لب) ودبلاتون. وهناك أيضا صور وأسماء عشر مدن في دلتا النيل ضمن إطار يحيط بفسيفساء الصالة الوسطى و تختلط بمشاهد أسماك، أزهار مائية وصور أطفال في زوارق. وجدت ثلاث كتابات داخل محراب كنيسة القديس أسطفانوس (باليونانية) ومنها كتابة الإهداء «بنعمة المسيح جُملت فسيفساء قدس الأقداس في عهد أبينا الكثير التقوى الأسقف أيوب ويوحنا الكاهن ... سنة 756 ميلادية .» وتشير الكتابة الثانية إلى مجموعة من الأشخاص ترد بينهم أسماء اثنين من أرباب الفن الفسيفسائي من حسبان؛ وهما «ستوراكيوس بن زاده » و «أورينيوس ». وهذه الإشارة مهمة في التأكيد على وجود حركة فنية في مجال الفسيفساء في شرق الأردن خلال العصرين البيزنطي والأموي وربما امتدت إلى العصر العباسي، إذ يقول باحثون إن الأرضية الفسيفسائية في الكنيسة تعود إلى العهد الأموي، بينما يرى آخرون أنها عباسية. وهكذا، مثلما كانت أم الرصاص ميدانا للتلاقي الروحي بين الإسلام والمسيحية، ظلّت هذه البقعة شاهدا على ذلك اللقاء، بما تؤكده شواهدها الفسيفسائية من كثافة الوجود المسيحي في المنطقة بعد قيام الخلافة الإسلامية، واستمرار المسيحيين في بناء الكنائس في القرن الثامن الميلادي الذي شهد على قدرة السكان على إنتاج أرضيات فسيفسائية رفيعة المستوى، ما يعكس حيوية ثقافية وفنية. |
|
|||||||||||||