العدد 68 - أردني | ||||||||||||||
دلال سلامة استيقظت حاكمة (51 عاما) فجراً على صوت صراخ رضيع ينبعث من خارج شقتها في إربد، وعندما فتحت الباب، وجدت على العتبة طفلة في أسبوعها الأول ملفوفة في بطانية، وإلى جانبها علبة حليب وكيس غيارات. حدث هذا قبل تسع سنوات تقريبا، لكنها تتذكر جيدا عندما حملت الطفلة أنها كانت “مكحلة العينين”. يبدو أن لا أحد يتخلص من أطفاله بهذه الطريقة هذه الأيام، فقد انشغل الرأي العام الأردني، وبالتحديد في السنوات الثلاث الأخيرة، بقصص مريعة، كان أبطالها رُضّعاً لا يتجاوز عمر الواحد منهم الساعات، مثل الطفلة التي اكتشفها عامل نفايات في جبل عمّان في كرتونة داخل كيس قبل دقائق من رفعها إلى كابسة النفايات تمهيدا لطحنها، أو الطفل الذي وُجد عاريا تماما في كيس نفايات أسود تحت جسر عبدون، أو الطفلة التي وُجدت وسط بركة من الدم في دورة مياه في مستشفى البشير ودرجة حرارتها 25 مئوية. هذه قصص تثير التساؤل حول ما إذا كان هذا يعكس وحشية، أم إنه ببساطة يعكس رعبا، رعب المرأة الأم من انكشاف أمرها، ورغبتها بالتالي في التخلص وبأي وسيلة من وليدها في اللحظة نفسها التي أنجبته فيها، في مجتمع يعاقبها على فعلتها باستباحتها وتجريدها من إنسانيتها. يصر المسؤولون على التقليل من شأن الأرقام. دراسة صادرة عن مديرية الأمن العام في العام 2008 ، رصدت أعداد مجهولي النسب في السنوات الأخيرة، شددت على أن الأمر “لم يرتق إلى مستوى الظاهرة”. في العام 2005 ، كان عدد مجهولي النسب 45 طفلا، وبلغ 55 طفلا في العام 2006 ، أما في العام 2007 ، فقد كان عددهم 70 طفلا، وهو آخر الأرقام المفرج عنها. مع الأخذ في الحسبان أن هذه الأعداد تشمل الأطفال مجهولي الأب والأم، ومعروفي الأمهات مجهولي الآباء، والأطفال نتاج علاقات السفاح. وفق إحصائيات وزارة التنمية الاجتماعية، فإن الأطفال مجهولي النسب يمثلون ما نسبته 35.86 في المئة من مجموع الأطفال في دور الرعاية. يبدو أن التشريعات لا تساعد، فالقانون يمنح الأم التي تقتل طفلها من علاقة السفاح عذرا مخففا، يشبه العذر الذي يمنحه للرجل في جرائم الشرف. فيقول نص المادة 332 ، من قانون العقوبات الأردني: “تعاقَب بالاعتقال مدة لا تنقص عن خمس سنوات الوالدة التي تسببت –اتّقاء للعار- بفعل أو ترك مقصود في موت وليدها من السفاح عقب ولادته”. الناشطة أسمى خضر، ترى أن هذه جريمة كأي جريمة أخرى، ويجب أن لا تمنح مرتكبتها عذرا مخففا، لكنها مع ذلك تنبه إلى خصوصية الحالة النفسية التي تمر بها الأم في مواجهة مجتمع يتسامح مع الرجل، ولا يتسامح مع المرأة والطفل. “يجب أن يكون هناك صياغة لقانون يحمي الطفل، ويحمي المرأة أيضا في هذه الحالة”، تقول خضر. الاحتضان هو طاقة الأمل الوحيدة. ليس فقط للأطفال، بل لعائلات حُرمت من نعمة الإنجاب، مثل (م) التي تعمل أستاذة جامعية، وقررت هي وزوجها احتضان طفل مجهول النسب، بعد 18 عشر عاما من عدم الإنجاب. وكانت هذه مغامرة في ثقافة ما زالت تسمي مجهول النسب “ابن حرام”. (م) ظلت وزوجها سنوات طويلة عاجزين عن اتخاذ القرار، بسبب المعارضة الشديدة من العائلة، بخاصة من أم الزوج التي رفضت أن يحضر ابنها لنفسه طفل “من برّه”. لكن بعد 18 سنة من المعاناة، حسم الاثنان أمرهما. “ذهبنا إلى المؤسسة، وأحضرنا الطفل، وكان عمره وقتها شهرا، وتوجهنا مباشرة به إلى منزل حماتي التي كانت من أشد المعارضين للفكرة ووضعناه في حجرها”، تقول (م). “الآن بعد سنتين ونصف –تضيف- حتى المعارضين للفكرة تقبلوا الطفل، مع بعض التحفظات”. وبحسبها، فإن أحد أشقاء زوجها يقول لها دائما إنه لا مشكلة الآن والمحتضَن في عمر الطفولة، ولكن، والسؤال له: “عندما يكبر ويصبح رجلا، هل ستنكشفين عليه وهو غريب عنك، وهل سيأخذ جزءا من إرثك؟”. وفق رئيس قسم التثقيف والتوعية المجتمعية في وزارة التنمية، فواز الرطروط، هناك إقبال كبير على عمليات تحضين الأطفال، وأعداد الأسر التي تنتظر دورها أكبر من أعداد الأطفال. عمليات الاحتضان –وليس التبني المحرم شرعا في الإسلام- تتم في وزارة التنمية منذ الخمسينيات. وفق آخر أرقام أعلنتها الوزارة، فإنه إلى العام 2007 ، كان هناك 706 حالات تحضين، منهم 72.47 في المئة داخل الأردن، و 27.53 في المئة خارجها. لكن هناء العتر، التي تقاعدت من وزارة التنمية بعد 27 عاما، منها 18 عاما في قسم الاحتضان، تقول إن هذه الأرقام غير دقيقة. “كثير من سجلات الوزارة ضاعت في الحريق الذي حدث في العام 1970 ، وبذلك فإن الرقم المذكور يعتمد على أول حالة احتضان موثقة حاليا، وهي في العام 1967 ”. النظام المعمول به حاليا صدر في العام 1971 ، وفي رأي العتر فهو نظام عفا عليه الزمن، وليس أكثر من مجموعة من البنود المختصرة شديدة العمومية، مثلا البند الذي يشترط “أن يكون المستوى الاجتماعي والبيئي والثقافي لكلا الزوجين لائقا”. أو البند الذي ينص على: “أن تتسم العلاقة بين الزوجين بالمودة والترابط والاحترام”. لذلك، تم تشكيل لجنة فنية قامت باعداد مسودة نظام جديد، غطى الكثير من الثغرات في النظام القديم، فأعطى تعريفا محددا لمجهول النسب، ولشروط الاحتضان خارج الأردن، ومصير الطفل في حال انفصال الزوجين أو وفاتهما. بدأ العمل في هذه المسودة في العام 2002 ، وانتهى في العام 2006 ، حيث رُفعت إلى ديوان التشريع بانتظار البت فيها. من البنود التي تضمنها النظام القديم شرط إسلام العائلة، وهو شرط حرمَ الكثير من العائلات المسيحية الراغبة في الاحتضان من ذلك، إلا إذا غيرت دينها. مسودة النظام الجديد تطرح المزيد من التشديد، إذ تشترط أن يكون قد مر على إسلام العائلة 5 سنوات يمكن أن تخفض إلى ثلاث، مراعاةً لعمر الزوجين. بحسب العتر، فإن من اقترح التعديل كان دائرة الإفتاء، التي طالبت بحرمان العائلات الأجنبية من الاحتضان، عندما عُرضت عليها المسودة في العام 2003 . “قلنا لهم إن حرمان الأجانب من الاحتضان سيوقع للوزارة في مشكلة كبيرة، لأنه سيكدس أعدادا كبيرة من الأطفال سود البشرة الذين ترفض العائلات الأردنية والعربية احتضانهم، في حين يُقبل عليهم الأجانب”. العرب كانوا يبررون ذلك بأنهم يريدون طفلا يشبههم حتى لا يتعرضوا لتساؤلات وتدخلات مستمرة من الآخرين، بسبب اختلاف اللون، الأمر الذي لا يشكل مشكلة للأجانب. العتر تقول إنها زارت في إطار عملها ألمانيا للالتقاء بستة من الأطفال كلهم كانوا من أصول افريقية وتبنتهم عائلات ألمانية بيضاء، وسألتهم إن كانوا يتعرضون لمضايقات، فقيل لها إن جميع النظرات المستغربة والأسئلة الفضولية التي توجَّه إليهم تكون من العرب والأتراك المقيمين في ألمانيا. دائرة الإفتاء وافقت على المضي في منح الأجانب حق الحضانة، لكنها طالبت بشرط المدة الزمنية لضمان أن لا يكون إسلام العائلة شكليا. رئيس مركز عمّان لدراسات حقوق الإنسان نظام عساف، يتحفظ على هذه المادة. “هذا منافٍ لحقوق الإنسان، وتمييز لا ضرورة له ، فالرحمة هي جوهر كل الأديان، واحتضان طفل هو حق لأي عائلة بصرف النظر عن دينها”. حقوق الإنسان التي يؤكد عليها عساف هي ما يجعل (م) تغني لابنها كل ليلة كي ينام: “أنا ما جبتك من بطني... أنا جبتك من قلبي”.
|
|
|||||||||||||