العدد 67 - ثقافي
 

محمد جميل خضر

يجدد فوز الباحث فايز الصيّاغ، بجائزة خادم الحرمين الشريفين للترجمة، عن ترجمته كتاب “عصر رأس المال" (1848 - 1875)، من تأليف المؤرخ البريطاني العالمي إريك هوبْزْباوْم، تأكيدَ الحضور الأردني في المشهد الثقافي والمعرفي العربي.

وهو ما يمكن أن يقال كذلك حول نيْل الباحثة سلمى الخضراء الجيوسي، أحد فروع الجائزة نفسها (مناصفةً مع المستشرق الألماني هاندرتش هارتموت) تقديراً لجهودها المتواصلة على المستويَين الفردي والمؤسسي، في ترجمة التراث والأدب العربي.

بعد فوزه العام الماضي بجائزة الشيخ زايد للترجمة، عن ترجمة كتاب “علم الاجتماع” للباحث البريطاني (أيضاً) أنتوني غِدِنْز، ها هو الصيّاغ يعزز ثقة المؤسسات العربية المعنية بدعم المنتَج الثقافي والمعرفي والأكاديمي به وبجودة أسلوبه، وخصوصيته، دقةً ومثابرة وموضوعية.

الكتاب بنسخته العربية، صادر عن مؤسسة “ترجمان”، بالتعاون مع المنظمة العربية للترجمة، وهو التعاون نفسه، والصيغة نفسها التي صدر من خلالها كتاب الصيّاغ المترجم الذي فاز بجائزة الشيخ زايد. بحسب بيان لجنة الجائزة، جاء عملُ الصيّاغ المترجَم “مميزاً في جودة الترجمة، وسلامة لغتها، ووضوح معناها، وتمثيلها للعمل الأصل في أفضل حال”.

الصيّاغ الذي كان من مؤسسي “السجل”، والمشرف لبعض الوقت على صفحاتها الثقافية، حاصل على درجة البكالوريوس في الاجتماع من الجامعة الأميركية في بيروت، وعلى درجتَي الماجستير والدكتوراه من جامعة تورنتو في كندا، يعمل حاليا أستاذاً لعلم الاجتماع الاقتصادي في الجامعة الأردنية، وهو زميل في مركز الدراسات الإستراتيجية – الجامعة الأردنية، وباحث أول في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما أنه مؤلف مشارك ومحرر (بالعربية والإنجليزية) لمجموعة من الدراسات عن التكامل الاقتصادي الاجتماعي، والمنظومات والتوجهات القيمية في أقطار المشرق العربي. وله مجموعة من المؤلفات تصل نحو 20 عملاً بالعربية والإنجليزية في المجالات الاجتماعية والثقافية، علاوة على الدراسات والبحوث في المجالات الأكاديمية والمحكمة.

ما لا يعرفه كثيرون عن الصيّاغ، المولود في الكرك العام 1942 ، أن له تجربة لافتة وقديمة في الشعر، وله مجموعتان شعريتان: “كلمات على الرمل” عن دار عويدات في بيروت في 1975 ، و »الحب.. مثلاً » عن المؤسسة العربية في بيروت، العام 1988 . جهوده المميزة في الترجمة، لفتت الأنظار إليه، ففي الوقت الذي تعاني فيه الساحة العربية من نقص كبير في النتاج العلمي والثقافي للمؤلفين والمفكرين الأجانب، إضافة إلى شيوع الترجمات المشوهة أو متدنّية المستوى، جاءت ترجماته لتكون مثالاً يُحتذى. في ترجمته لكتاب «علم الاجتماع » على سبيل المثال، وهو كتاب تناول الجوانب النظرية والتطبيقية والتجريبية لموضوعات منها تعريف علم الاجتماع، الثقافة والمجتمع، التفاعل الاجتماعي والحياة اليومية، الجنوسة والجنس، المرض والشيخوخة، وغيرها.. اعتمد الصيّاغ منهجَ ترجمة خلاّقاً، لا يعتمد نقلَ

النص حرفياً كما هو متعارف عليه، بل يعمد إلى إدخال تعديلات على النص بما يتناسب مع روح الثقافة المترجَم إليها.

الأمر نفسه فعله في ترجمته كتابَ «عصر رأس المال » الذي يوثق فيه المؤلف لتحولات الحياة الأوروبية بين العامين 1789و 1848 ، إذ يحلل صعود الرأسمالية الصناعية، وترسّخ الثقافة البورجوازية، وامتداد الاقتصاد الرأسمالي، وتوسعه لِيشمل بقاع الأرض المختلفة، وكذلك تمركز الثروة، والهجرات البشرية، وسيطرة أوروبا وثقافتها، الأمر الذي جعل من الفترة المذكورة حدّاً فاصلاً، لا في تاريخ أوروبا فحسب، بل في تاريخ العالم. تتميز ترجمة الصيّاغ، إضافة إلى لغته القوية، بصرامة التقاليد العلمية التي يتبعها، فقد رفدَ كل كتاب بثبت تعريفي للمصطلحات والمفاهيم والأعلام، إضافة إلى الفهرسة حسب الأصول. من هنا وجدت هذه الكتب مكانها الطبيعي في المكتبة العربية، وأضحت من جملة المراجع العلمية في العلوم الاجتماعية بعامة، وفي التاريخ الحضاري والاقتصادي والسياسي.

مسيرة تمكث في الأرض بين إعلان فوزها بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية للإنجاز الثقافي والعلمي العام الماضي، وفوزها بجائزة خادم الحرمين الشريفين للترجمة مؤخراً، وانطلاقتها في الميدان الذي كرّست له حياتها قبل زهاء نصف قرن، مسيرةٌ أرادت لها سلمى الخضراء الجيوسي أن تكون مما يمكث في الأرض، فيما هي تتنقل من الشعر إلى النقد، ومن تأريخ الأدب الحديث إلى البحث والترجمة، ومن الإشراف على الأنطولوجيات الموسوعية إلى الاشتغال على التراث، بينما تنبعث في وجدانها إزاء ذلك كله مشاعرُ مختلطة، من أبرزها على حد تعبيرها “الطمأنينة” بأنها أدّت رسالتها وخدمت قضيةً تؤمن بها. وهي رغم المنجَز القارّ الذي تواصل العمل عليه، ترى أن كل ما فعلت لم يكن أكثر من بداية: “إنه إعداد لشيء أكبر بكثير من قدرة فرد واحد، وقد لا يجد طريقه أبداً إلى الاكتمال”. كما جاء الصيّاغ من جهة الشعر، كذلك فعلت الخضراء الجيوسي المولودة في مدينة السلط العام 1928 ، إذ شهدت بداياتها اهتماماً خاصاً بالشعر، فأصدرت مجموعتها الأولى (والأخيرة) فيه “العودة من النبع الحالم” في العام 1960 ، لكنها تحولت عنه بعد أن أجرت عليه “حكماً جارحاً” بحسب تعبيرها. فكانت إذا جاءتها القصيدة تؤجّلها ريثما تنتهي من هذا ومن ذاك، غير أن لحظة الإبداع هشّة ولا تطيق التأجيل كما ترى.. “لذا ضحّيت بما لا يُضَحّى به حتى أنجز ما يجب أن يُنجَز”، تقول، مضيفةً في السياق نفسه: “لو كنتُ أعيش في زمن رخيٍّ أتمتع باستقرار الوطن جميعه وتقدمه المستمر، لما اخترتُ إلا الإبداع تعبيراً عن تجارب الحياة، ولكني ابنة هذه الأرض. وقد درت العالم ورأيت وسمعت وأدركت أنه لن يقوم بنا إلا العمل المستمر للدفاع عن

شرفنا المغتصَب وسمعتنا الحضارية وإنجازاتنا الزاهرة”. يتسم “منجَز” سلمى، رغم صدوره عن جهدٍ فردي، بأنه ناتجٌ عن شمولية و”استراتيجيات” وبُعد نظر، فضلاً عما يشتمل عليه من الدقّة والنزاهة والاحتكام إلى المعايير النقدية الصارمة. مطلع ستينيات القرن الماضي، ترجمت سلمى عدداً من الكتب عن الإنجليزية، منها كتاب لويز بوغان “إنجازات الشعر الأميركي في نصف قرن” (1960)، وكتاب رالف بارتون باري “إنسانية الإنسان” (1961)، وأول جزأين من “رباعيّة الإسكندرية” للورانس دريلم “جوستين” و”بالثازار” (1961 – 1962). ثم “هكذا خلقت جيني” لأرسكين كالدويل (1961)، و”والت ويتمان” لريتشارد تشيس (1962)، و”الشعر والتجربة” لآرشيبالد ماكليش (1962). في العام 1977 نشرت “الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث” في جزأين، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى العربية، وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. تعمل سلمى حالياً على غير مشروع، وتفكّر في مقترحات لكتب جديدة تهدف إلى تقديم صورة مشرقة عن الإسلام للغرب، وهناك في جعبتها قيد الإعداد، كتاب كبير جداً حول “المدينة في العالم الإسلامي”، وآخر حول “الفن القصصي العربي في العصور الكلاسيكية”. وكانت صدرت في تشرين الأول/أكتوبر 2006 ، موافقةُ مجلس إدارة مكتبة الملك عبد العزيز العامة بإنشاء جائزة عالمية للترجمة من اللغة العربية وإليها باسم “جائزة خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة”. وهي جائزة تقديرية عالمية تُمنح سنوياً للأعمال المتميزة، والجهود البارزة في مجال الترجمة.

تدعو الجائزة إلى التواصل الفكري والحوار المعرفي والثقافي بين الأمم، وإلى التقريب بين الشعوب، انطلاقاً من أن الترجمة تعدّ أداة رئيسة في تفعيل الاتصال ونقل المعرفة، وإثراء التبادل الفكري، وتأصيل ثقافة الحوار، وترسيخ مبادئ التفاهم والعيش المشترك، ورفد التجارب الإنسانية والإفادة منها. تتخطى جائزة خادم الحرمين الشريفين بعالميتها، الحواجزَ اللغوية والحدود الجغرافية، موصلةً رسالة معرفية وإنسانية. تهدف الجائزة للإسهام في نقل المعرفة من اللغات الأخرى إلى العربية، ومن العربية إلى اللغات الأخرى، وتشجيع الترجمة في مجال العلوم إلى اللغة العربية، وإثراء المكتبة العربية بنشر أعمال الترجمة المميزة، وتكريم المؤسسات والهيئات التي أسهمت بجهود بارزة في نقل الأعمال العلمية من اللغة العربية وإليها، والنهوض بمستوى الترجمة وفق أسس مبنية على الأصالة والقيمة العلمية وجودة النص.

للجائزة مجالات خمس: جائزة الترجمة لجهود المؤسسات والهيئات، جائزة الترجمة في العلوم الإنسانية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، جائزة الترجمة في العلوم الإنسانية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، جائزة الترجمة في العلوم الطبيعية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية

وجائزة الترجمة في العلوم الطبيعية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى. ومكوناتها: شهادة تقديرية تتضمن مبررات نيل الجائزة، ومبلغ 500 ألف ريال سعودي (ما يعادل 133 ألف دولار أميركي)، وميدالية تذكارية. تواصل موثوق مع العالم تُعنى مؤسسة “ترجمان” التي أُنشئت في العام 2003 ، بمبادرة ودعم من مصطفى الحمارنة، كهيئة أهليّة اعتباريّة غير ربحية، بتعريف قادة الرأي والنخب التربوية والسياسية والاقتصادية العربية بالإنتاج الفكري الجديد والمهم خارج العالم العربي، في المجالات الواقعة ضمن اهتمامات الأوساط العربية. كما تُعنى، عن طريق النشر وتنظيم الندوات التخصصية، وعبر أنشطة ووسائل متنوعة، بالترجمة الأمينة الموثوقة المأذونة، وعن اللغات الأصلية قدر المستطاع للأعمال والمؤلفات الأجنبية الجيدة الجديدة، أو ذات القيمة المتجددة في مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية بعامة، وفي العلوم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والثقافية والفنية بصورة خاصة. تسعى “ترجمان” من خلال ذلك، إلى أن تصبح مطبوعاتها في متناول الأكاديميين وصنّاع القرار والطلبة جميعاً، لأنها ستكون بين أيديهم بسعر التكلفة تقريباً، بخاصة وأن موارد المؤسسة تقتصر على المعونات غير المشروطة من الهيئات الاقتصادية والأكاديمية والخيرية، ومن الأفراد الغيورين على نوعية المراجع التي يحتاج إليها الباحثون والدارسون العرب. وكانت “ترجمان” وزعت مئات من النسخ من إصداراتها مجاناً على مكتبات الجامعات العربية قاطبةً، من المحيط إلى الخليج.

الصيّاغ والجيّوسي يفوزان بجائزة جديدة للترجمة تجديد الحضور الأردني الفلسطيني في المشهد الثقافي العربي
 
12-Mar-2009
 
العدد 67