العدد 67 - أعلام | ||||||||||||||
عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.
فيصل دراج إذا كانت حداثة طه حسن وعبد الرحمن الكواكبي وجبران خليل جبران تتكشّف في الأفكار الواضحة التي بشرّوا بها وقاتلوا من أجلها، فمن أين تأتي حداثة نجيب محفوظ (1911 - 2007)، الذي كان روائياً لا غير؟ تأتي الإجابة من طرق عديدة، أكثرها ملاءمة ما دعاه طه حسن ب: الدفاع عن «الجديد » في مواجهة «القديم »، ذلك أن الرواية جنس أدبي حديث، لم يعرفه الموروث الأدبي العربي القديم، لأن الفن الروائي لا ينفصل عن المجتمع المدني، الذي أنتجته الأزمنة الحديثة. أمّا الطريق الثانية فعنوانها: إعادة تأسيس الكتابة الروائية العربية، وتحويلها من كتابة موسمية لا تحظى باحترام كبير، إلى كتابة احترافية تنتزع الاعترافين الاجتماعي والأدبي معاً. انجذب محفوظ الشاب إلى أفكار سلامة موسى، المدافع الحاسم عن النظرية التطورية والمجتمع الصناعي والأفكار الاشتراكية، وانشدّ إلى فلسفات هيغل وبيرجسون وشوبنهاور، إلى جانب نزوع صوفي لازمه طيلة حياته. ومع أن محفوظ درس الفلسفة، وتوقع له أساتذته مستقبلاً مشرقاً في هذا المجال، فقد آثر الانصراف إلى الكتابة الروائية، ذلك أن مرونة الشكل الروائي تسمح بتأمل الأسئلة المتنوعة المختلفة. وواقع الأمر أن الروائي المصري تعامل مع القضايا الفلسفية بشكلين: شكل أول مباشر أحال فيه على فلسفات معاصرة (هيغل وشوبنهاور وسبنسر)، مارسه في ثلاثيته الشهيرة، وشكل طليق تأمل به معنى الإنسان والسلطة والعدالة، مارسه في أعماله كلها. أعاد محفوظ تأسيس الرواية العربية، واقترح تطوير أشكالها منتهياً إلى ثلاث حقب واضحة، وحقبة أخيرة مفتوحة لا تقبل بالانغلاق. والحقب المفترضة هي: الحقبة الفرعونية )التاريخية( التي استهل بها كتابته، والحقبة الواقعية، والمرحلة الفلسفية، ومرحلة رمزية عنوانها الأكبر «أولاد حارتنا » وروايات صغيرة لاحقة. غير أن هذا التصنيف، لا يكشف عن معناه الحقيقي إلا بالرجوع إلى معنى المثقف والروائي في فلسفة محفوظ، التي تقول بأمرين: تتعيّن وظيفة المثقف بنقد السلطة القائمة، وبالدعوة إلى سلطة بديلة تترجم الإرادتين الشعبية والوطنية معاً. لهذا بدأ محفوظ برواية تندّد بالسلطة القاتلة عنوانها "عبث الأقدار"(1936)، وانتهى برواية تتأمل السلطوي القتيل عنوانها «يوم قتل الزعيم" (1985). لا غرابة أن يكون الروائي «وفدياً » في شبابه، وأن يظل مخلصاً لخياره «الوفدي »، معبّراً عن إيمان عميق بدولة القانون والنظام الديمقراطي. يتكشف معنى الكتابة المحفوظية في استراتيجية الشكل الروائي، أو بالمقاومة الروائية، إن صح القول، التي تشتق الشكل من الوظيفة، وتجعل من الشكل والوظيفة إداة لنقد السلطة. تشرح هذه الاستراتيجية حقب محفوظ الروائية، وتلقي ضوءاً كافياً على أسباب انتقاله من شكل روائي إلى آخر. يتجلى هذا في روايته التاريخية الثانية «رادوبيس"(1943) التي أراد بها نقد تبذير «الملك فاروق »، فعاد إلى الزمن الفرعوني البعيد، وأعاد كتابة سيرة حاكم عبث بثروات شعبه وعاقبه شعبه. ومع أن بعضهم رأى في روايته الشهيرة «أولاد حارتنا"(1959)، عملاً يسيء إلى الدين وسير الأنبياء، فإن العمل لم يتطرّق إلى الدين ولم يهجس به، ذلك أن محفوظ أراد أن يحتجّ به على النظام الناصري. أعلن الشكل الفني، الذي عاد إلى بدء الخليقة ووضع فيها أباً ظالماً في الخلاء، عن يأس محفوظ من السلطات المصرية، التي كلما خسرت مستبداً جاءت بآخر أكثر استبداداً. وحّدَ محفوظ بين الشكل الروائي والسياق، وجعل من الشكل تكثيفاً مشرقاً للواقع المعيش، الذي تستولده السلطة وتصوغه كما تشاء. ففي أربعينيات القرن الماضي، حين كانت الحركة الشعبية المصرية تعد بأفق جديد، همّش الروائي موقع السلطة في أعماله، وانصرف إلى تأمّل «العائلة المصرية ،» في فقرها وكفاحها وأحلامها التي تبدّدها، غالباً، صدفة مأساوية. بعد هذه المرحلة التي دعاها النقاد ب «الواقعية »، حيث مساحة الواقع المعيش المضطرب تهمّش مساحة السلطة، جاءت «الستينيات الناصرية » بمرحلة مغايرة: «المرحلة الفلسفية »، بلغة الناقد الراحل محمود أمين العالم. وواقع الأمر أن المرحلة المقصودة لم تلتفت إلى الفلسفة ، حال «أولاد حارتنا » التي لم تلتفت إلى الدين، ذلك أن الفرد المغترب الذي دارت حوله، كان تعبيراً عن انحسار المجتمع المدني وتزايد سطوة الأجهزة الأمنية. فلا رواية «اللص والكلاب » (1961) ولا ما تلاها من روايات، كانت مشغولة بقضايا وجودية، فقد كان موضوعها الأساسي هو تحولات المجتمع المصري المقموع والقضايا التي يطرحها: اغتراب الفرد المثقف، اهتزاز اليقين، تداعي معنى القانون والمسؤولية. ولعل الربط الدقيق، الذي لا تجريد فيه، بين الكتابة الروائية والمعطيات الاجتماعية، هو الذي جعل محفوظ يستشرف هزيمة حزيران (1967) قبل وقوعها، وذلك في عمله العميق الرهيف «ثرثرة فوق النيل » .(1966) أعطى بعض النقاد العرب وغير العرب لمحفوظ صفة شهيرة: «مؤرخ الحياة المصرية في المجتمع الحديث ». والصفة، ظاهرياً، صحيحة، فقد رصد الروائي، في ثلاثيته الشهيرة، تحولات ثورة 1919 ، منذ بداياتها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية (1944)، وسجّل ما تبقى في روايات لاحقة: «خان الخليلي"(1946)، و «بداية ونهاية » و «زقاق المدق ».. ولاذ بصمت متفائل، بعد انقلاب 1952 ، مستبشراً بنظام ديمقراطي وطني لم يأتِ... بيد أن محفوظ لم يكن مشغولاً ب «الرواية التاريخية »، ولا بالتاريخ كأزمنة متعاقبة، فقد كان يهجس دائماً بأمر جوهري: لا سبيل إلى وعي الحاضر من دون معرفة الماضي الذي أفضى إليه. ربط محفوظ بين المعرفة السياسية والمعرفة التاريخية، وصاغ العلاقتين معاً في كتابة روائية. في هذا كله كان مشدوداً إلى الأفكار التطورية، يرى المستقبل، ويشتقه من تكامل المعرفة والديمقراطية، مترجماً بلغة روائية ما قال به طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر .» رغم حديث صاخب، في خمسينيات القرن الفائت وستينياته، عن الالتزام والواقعية، لاذ محفوظ بشيء أقرب إلى الصمت، حتى رأى فيه بعضهم روائياً «طبيعياً » أقرب إلى التشاؤم، وابناً مخلصاً ل «البرجوازية المصرية الصغيرة ،» بلغة ذاك الزمان. غير أن الابتعاد عن الأحكام السياسية السريعة يبيّن بوضوح أن محفوظ هو مؤسس «الرواية السياسية العربية » بامتياز، مع فرق جوهري بينه وبين آخرين، خلطوا بين السياسة والتحريض، واشتقّوا السياسة من أيديولوجيات لا تحسن قراءة التاريخ. فعلى خلاف هؤلاء، آثر محفوظ، المأخوذ بالمنظور العلمي للعالم، أن يأخذ بالاحتمال وأن يستبعد اليقين، وأن يرى السياسة ي فرد حر مستقل قادر على الرفض والقبول والمبادرة. فلا يقين إلا سعي الإنسان الدؤوب إلى يقين لن يأتي، ولا حقيقة إلا ما يعثر الإنسان عليه في حياته الواقعية. لهذا أعطى محفوظ لمفهوم «الصدفة » مكاناً واسعاً في رواياته، مؤكداً اغتراب الإنسان وانزياحه المستمر عن الهدف الذاهب إليه. لن تكون السياسة، والحال هذه، إلا كفاح الوعي النقدي المتواصل من أجل عالم يقول الإنسان رأيه فيه ولا يعاقَب. اتكاءً على أدب إبداعي متحرر من الشعارات، وصل محفوظ إلى «كتابة المقموعين »، تلك الكتابة التي تخادع السلطة بأقنعة متعددة. مارس الروائي «المكرَ الروائي »، كما كان يقول، حين نقد الملك فاروق مستعيراً حياة «رادوبيس »، وحين ندد بالسلطة الناصرية إلى تخوم الهجاء في «أولاد حارتنا »، وصولاً إلى النظام الساداتي الذي نفذ إلى جوهره في «ملحمة الحرافيش » (1977) آخذاً بأقنعة مصرية تراثية عنوانها: «الفتوّة »، الذي يؤسس فسادَهُ على هزيمة خصم فاسد سبقه. في مواجهة كل مدينة ظالمة صريحة تقف مدينة فاضلة مضمرة، وفي مقابل كل أديب سلطوي يقف أديب يطالب بسلطة عادلة، وفي مواجهة السلطة العاتية، يقف «الحرافيش ،» هؤلاء الفقراء الذين ينتظرون يوماً سعيداً. نصرَ محفوظ «الحرافيش » في «ملحمة الحرافيش »، حين استولد، بعد ستين حكاية عن المدينة الظالمة، مدينةً فاضلة أخيرة، يسوسها عادلون، ينصرفون إلى قراءة الشعر والفلسفة ويستمعون إلى موسيقى سماوية. |
|
|||||||||||||