العدد 67 - اقليمي | ||||||||||||||
معن البياري عشية إصدار قضاة المحكمة الجنائية الدولية ال 18 مذكّرتهم التي تقضي بتوقيفه، واتهامهم له فيها بارتكاب سبع جرائم كبرى في إقليم دارفور، سخر الرئيس السوداني عمر البشير، قائلاً: إن عليهم أن يبلّوا قرارهم، أياً كان، ويشربوا ماءه. وغداة إعلان المذكّرة، ومع إشهار دول غربية غير قليلة ومنظمات حقوقية عديدة ترحيبها بالقرار، قال الرئيس السوداني إن مدّعي عام المحكمة ومن فيها وداعمي قرارها «تحت حذائه ». وبإضافة هذين التصريحين الحادين، إلى قرار الحكومة السودانية طرد 13 منظمة إغاثة إنسانية أجنبية من أراضيها، ردّاً أولَ منها على قرار المحكمة الدولية، فإن المرء يقع على منسوب عالٍ من التوتر في استقبال القرار غير المسبوق، الذي يتوجه باتهامات صريحة لرئيس دولة وهو في منصبه، ويطالب بالقبض عليه. وهي اتهامات ثقيلة، خمس منها متعلقة بجرائم ضد الإنسانية: القتل، الإبادة (مغايرة للإبادة الجماعية)، النقل القسري لأعداد كبيرة من المدنيين ونهب ممتلكاتهم، الاغتصاب. هذه الاتهامات وأخرى غيرها، كان مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية الأرجنتيني لويس أوكامبو، ضمّنها في مذكرة طلبه في تموز/يوليو الماضي إصدار الأمر باعتقال الرئيس. وسعت جامعة الدول العربية، والاتحاد الإفريقي ودول صديقة للحكم أبرزها الصين، إلى تعليق طلب أوكامبو، وإتاحة الوقت لجهود إحلال تسوية سياسية وترتيبات أمنية، تُنهي العدائيات المستمرة في الإقليم. وأخفقت تلك الجهود في التأثير على المسار الذي كانت تمضي إليه المحكمة الدولية. والمتوقع أن الإخفاق نفسه سيلحق بجهود مماثلة، تنشط بها حالياً جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي، ومصر، والصين، وروسيا، باتجاه تجميد قرار قضاة المحكمة لمدة عام، وهو ما تتيحه المادة 16 من نظام المحكمة. ولا تعلن الخرطوم تأييداً لهذا السيناريو، صدوراً عن قناعتها بوجوب إسقاط القرار المذكور، واعتباره كأنه لم يكن، بصفته مسّاً كبيراً في استقلال السودان وسيادته، وعودة للاستعمار، وقراراً سياسياً يهدف إلى الهيمنة على السودان ومقدّراته، بحسب ما دأب الرئيس على ترديده في خطاباته أمام الحشود، طوال الأيام الماضية عقب إعلان مذكرة طلب اعتقاله في لاهاي. إلى ذلك، سارعت الحكومة السودانية إلى رفض مقترح القاهرة عقد مؤتمر دولي يناقش مذكرة المحكمة الجنائية، ويعالج قضية دارفور، «لأن المؤتمر سيكون منصة دولية لإشهار المواقف الأجنبية ضد الحكم في الخرطوم .» وبالنظر إلى رفض الخرطوم المطلق قرار المحكمة، ومواجهته بطرد منظمات إغاثة إنسانية أجنبية غير حكومية بدعوى ممارستها أنشطة استخبارية، في قرار لا رجعة عنه، بحسب مسؤول بارز، تقول الأمم المتحدة إنه سيحرم نحو مليون ونصف مليون في دارفور من الغذاء والإعانة. وبالنظر إلى تهديد منظمات إنسانية أخرى وقوة الأمم المتحدة العاملة ضمن قوات حفظ السلام المشكلة مع قوات أخرى إفريقية، بالطرد، بل وتهديد الدبلوماسيين الأجانب بذلك. بالنظر إلى ذلك كله، لا يبدو ميسوراً الوقوف على السيناريو المحتمل أن يمضي إليه مسار الأزمة القائمة والمحتدمة بين الخرطوم، والأمم المتحدة، وتالياً بينها وبين عواصم نافذة في «المجتمع الدولي ». غير أنه في الوسع ترجيح أن مزيداً من الانسداد السياسي سيستجدّ أمام المحاولات الهادفة لتنشيط التفاوض بين الخرطوم وحركات التمرد، فقد سارعت الأخيرة للترحيب بقرار المحكمة الدولية، واعتبرته «انتصاراً » لها. أما «حركة العدل والمساواة »، فقد أعلنت وقفها المسار التفاوضي الذي بدأته مع الحكومة، وقال رئيسها خليل إبراهيم، إنها تجد نفسها إحدى الآليات التي تمكّن من القبض على الرئيس. وكانت الحركة أبرمت، في الدوحة وبرعاية قطرية، وإفريقية، وعربية، تفاهماً موقعاً مع الحكومة، يقضي باستمرار التفاوض وبالبحث المشترك في إجراءات ميدانية وإنسانية وأمنية لتخفيف التوترات القائمة في دارفور. أما حركة تحرير السودان، فأعلن زعيمها المقيم في باريس عبد الواحد محمد نور، أن لا سلام يمكن أن يقوم في السودان، ما لم يسلّم البشير نفسه، وينقذ البلاد من «العنتريات »، بحسب تعبيره. وزعم أن الحل في السودان يكمن في تشكيل حكومة ائتلافية انتقالية تترأسها حركته، تعمل على ضمان فصل الدين عن الدولة، وإحلال العلمانية، واحترام الحريات، والتطبيع مع إسرائيل. وقال نور إنه عندما يتولى السلطة في الخرطوم، في وقت قريب جداً (!)، سيعمل على فتح سفارة وقنصليات إسرائيلية في عموم مناطق السودان، جنباً إلى جنب مع السفارة والقنصلية الفلسطينية. وفي زياراته المتتالية إلى إسرائيل، بزعم أن هناك ثمانية آلاف سوداني هارب من دارفور، واستعجاله التطبيع مع تل أبيب، ورفضه أي مفاوضات مع الحكومة السودانية، يضاعف عبدالواحد نور من تشويه قضية دارفور الذي يعاني مئات الآلاف من سكانه من محنة ثقيلة. بينما الرأي الشائع في الشارع العربي أن القضية برمتها اصطنعتها إسرائيل، وأميركا، وفرنسا، وبريطانيا، لاستنزاف السودان وجعله تابعاً. هذه القناعة النافذة تضاعفت مع إصدار المحكمة الجنائية الدولية الأمر بالقبض على الرئيس، الأمر الذي يحيل بالضرورة إلى تجاهل مجرمي الحرب الإسرائيليين، بعد المحرقة العدوانية في غزة وقبلها. وقد عمد الرئيس للتأشير إلى هذا الأمر في خطاباته أمام الحشود، التي تجمعت لنصرته في شوارع الخرطوم وفي دارفور نفسها، وقام بالتذكير بجرائم بوش في العراق بعد احتلاله. ويطربُ الشارع العربي لهذا الكلام، المحقّ في بعض وجوهه، أمام مسألة البشير وأمام قضية دارفور، لا سيما أن أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وصاحب الحملة الأقوى ضد البشير، صرّح ل «الجزيرة » في هذه الأثناء أنه ليست هناك أدلة تثبت ارتكاب المسؤولين الإسرائيليين جرائم حرب في أثناء العدوان على غزة. أدى إصدار قضاة المحكمة الدولية مذكرة طلب الاعتقال، إلى تجهيل كبير في الشارع العربي بشأن القضية الإنسانية والأمنية الشنيعة في دارفور، وبشأن الإحساس الإنساني والأخلاقي الواجب تجاه مئات آلاف الضحايا هناك، وكلهم مسلمون، كما يحسن التذكير دائماً، من قتلى وجرحى، ومشردين، ومنهوبين، ولاجئين، ومتروكين للرياح الإقليمية والدولية الشديدة التعقيد. وفيما أصبحت هذه الجموع موضوع ابتزاز سياسي واتجار غير أخلاقي، فإنه يصبح عصيّاً التوافق بشأن حقيقة ما يجري ضدّهم، ومن الصعب التسليم بوجاهة أي رواية بشأنهم، سواء من الحكومة السودانية أو حركات وعصابات التمرد، وأيضاً من هيئات الأمم المتحدة ومنظمات عديدة لا شطط في القول إن ثمة مقادير من عدم الصدقية في تقاريرها، مع تشويش كبير يتم منذ اندلعت الأزمة في دارفور قبل ست سنوات، بشأن أعداد القتلى والنازحين، وبشأن المسؤوليات عن اقتراف الانتهاكات. يزيد قرار اتهام الرئيس بالمسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن جرائم ضد مدنيين في دارفور، من انكشاف السودان أمام العالم، ما يُضاعف احتمالات تعرض هذا البلد العربي لضغوط وعقوبات، ويضيف عوامل جديدة لخلط الحقائق في دارفور، وللتعمية في الشارع العربي على محنة شديدة الفداحة. ولن يكون مفاجئاً أن يشهد السودان تطورات دراماتيكية، إذا تم اللجوء إلى قرصنة غير أخلاقية من أجل اعتقال البشير، وسيكون السلام والأمن في دارفور، والاستقرار في عموم السودان، بين ضحايا عديدين جراء ذلك. |
|
|||||||||||||