العدد 67 - الملف | ||||||||||||||
محجوب الزويري قبل نحو عامين طرح كاتب هذه السطور سؤالاً على دبلوماسي أميركي سابق في منطقة الخليج عما إذا كان التصور الأميركي والغربي للتهديد الإيراني مرتبطاً بالأزمة في العلاقات التي أصابت تلك الدول وإيران بعد الثورة الإسلامية، وهل هذا الوضع قابل للتغيير أم لا؟ كان الجواب في منتهى الوضوح، وهو أن حالة الأزمة والتصعيد في العلاقات مع إيران ستنتهي إذا ما غيرت إيران سلوكها، وأقامت علاقات طبيعية مع دول العالم وفق الإطار المتعارف عليه دولياً، وعليه، فإن علاقات طبيعية، أو على الأقل غير عدائية أو تحريضية ضد الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، سوف تساعد في إزالة فكرة التهديد المرتبط بإيران دولياً وإقليمياً. السؤال نفسه عاد ليطرح مرة أخرى، وفي مناسبة أخرى على سفير أميركي سابق، ولكن هذه المرة حول تركيا. كان السؤال عما إذا كانت واشنطن منزعجة من الموقف التركي من الحرب على غزة، والانتقاد التركي الشديد الذي وجّه إلى إسرائيل آنذاك؟ لم يكن الجواب بعيداً عن الإجابة عن السؤال السابق من حيث الفكرة، فالدبلوماسي أقر بتفوق الأتراك لكنه لم يفصل، على أن التفوق الذي تم الحديث عنه مرتبط بالاستفادة من حالة انتقال السلطة التي كانت تعيشها واشنطن، فالإدارة السابقة كانت تحزم أمتعتها، وبالتالي لم تكن تركيا قلقة من أي ردة فعل، كما أن الإدارة القادمة لن تكون معنية بالبدء بافتعال أزمة مع حليف مثل تركيا في سبيل حرب انتقدت عالمياً، ورأى كثيرون أن إسرائيل أفرطت في استخدام قوتها ضد شعب أعزل. من المؤكد أن المؤسسة الأميركية لم تكن مسرورة للموقف التركي، لكنها تعلم أن الموقف التركي بقي مُحافظاً على مستوى معين لم ينزل عنه من إسرائيل، لا بل اعتبر أن علاقته مع إسرائيل تخوله لانتقادها، لأن عدوانها أحرج تركيا التي كانت تقوم بوساطة بين الدولة العبرية وبين سورية. الدراسات الأمنية والعلاقات الدولية، عِلْمان يرتبط فيهما مفهوم التهديد للدول بعوامل عدة، وعلى رأسها النظام الدولي السائد، وشكل التحالفات التي تقيمها كل دولة، والتفاوت الكبير في تعريف المصالح وكيفية تأمينها. هذه العوامل ربما تساعد في تفهم الأردن لما تقوم به تركيا في المنطقة، والقلق من إيران. لقد عكست المواقف التركية المعلنة من الحرب على غزة، ورغم ظهورها وكأنها مواقف شعبوية )تسعد كثيراً موقف الرأي العام(، فإنها لم تكن لتسبب لتركيا أي مشكلة جدية في علاقاتها مع الدول العربية بما في ذلك الأردن، وعلى الرغم من تبني تركيا موقفاً داعياً لمشاركة أكبر لحماس في العملية السياسية، وفي السلطة الوطنية الفلسطينية، فإن دورها المتعلق بدعم عملية التسوية السياسية في المنطقة، ولعب دور الوسيط بين الدولة العبرية وسورية يجعلها قريبة للحكومات العربية بما فيها الأردن، لا سيما مع تبنيه السلام خياراً استراتيجياً، في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. ورغم نجاح التيار الإسلامي في تركيا وسيطرته على السلطة التنفيذية والتشريعية فيها، فإنه بقي محلياً، إلى جانب كونه إنجازاً يحسب للإسلام السياسي كتيار، لكن النجاح التركي لم يحمل أي نوع من التهديد أو التلويح بنقل تلك التجربة وفرضها على دول أخرى، ما ساهم كثيراً في إبقاء العلاقات السياسية طبيعية مع المحيط العربي. في السياق نفسه، فإن تركيا كانت أقرب للمربع العربي بما يتعلق بالتطورات في العراق، فالمطلب الأساسي كان الحفاظ على وحدة العراق وبناء دولة قوية وعدم السماح بتحول العراق إلى دولة فاشلة يمكن أن تشكل تهديداً لجيرانها، مثل هذا الموقف جعل دول الجوار العربي للعراق أكثر ثقة بتركيا منها في إيران. إن الدور الذي يبدو من الواضح أن تركيا بدأت تقوم به، يجعل منها قوة إقليمية نافذة قادرة على إحداث نقلة نوعية في التوازن بين مصالحها الإقليمية من جهة، وبين مصالحها مع الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة من جهة أخرى. تركيا تبدو اليوم الطرف الأقدر على لعب دور الوسيط بين إيران والولايات المتحدة، رغم محاولة الطرفين التقليل من فرص حدوث ذلك. لقد استطاعت تركيا أن تدير علاقاتها التي لم تخل من أزمات مع دولة مثل: سورية، لا سيما بما يتعلق بالمياه، لتنتقل اليوم إلى موقع الوسيط الذي تثق دمشق بنزاهة وساطته. إذا كانت تركيا نجحت في ذلك، فماذا يمنعها من أن تقوم بالدور نفسه، وبخاصة إذا ما علمنا إنها تمتلك علاقات سياسية واقتصادية قوية مع إيران، وكذلك مع الولايات المتحدة الأميركية؟. الصورة التي تبدو في علاقات الجار التركي للعرب، تبدو مختلفة عن تلك التي تربط إيران مع العرب )باستثناء علاقات إيران مع سورية ولبنان وأخيراً العراق(. وإذا كان هنالك من وصف لحالة العلاقات الإيرانية مع بقية الدول العربية، ولا سيما الأردن، فهو «العلاقة الأزمة ». إن القلق بين بلد مثل الأردن - ودول عربية ليست بعيدة عن الأردن جغرافياً - لم يزل أبداً، لكنه تراجع في صورة ملحوظة بين 1997 و 2005 ، تراجع ارتبط بتغيير سياسي داخلي في إيران، وهو تولي الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي، رئاسة إيران لدورتين متتاليتين وما تبعه من بداية مرحلة جديدة في السياسة الخارجية الإيرانية سميت بمرحلة «إزالة التوترات .» بالعودة إلى الوراء قليلاً، يمكن ملاحظة أن علاقات الأردن وإيران التي بدأت العام 1949 كانت تسير في سياق طبيعي حتى 1979 . في ذلك الوقت كانت إيران الحليف الأهم لإسرائيل، في وقت كان العرب، بمن فيهم الأردن، في الطرف الآخر. تغيّرت الصورة بشكل درامي فيما بعد، فالنظام الذي أنتجته الثورة الإسلامية وقف موقف الضد من إسرائيل، في حين ارتأى الأردن، ومعه دول عربية صديقة لإيران مثل سورية، الذهاب لبناء سلام مع إسرائيل العام 1991 . إن التغير الكبير في طبيعة التحالفات بين إيران، والأردن يفرض تناقضاً سياسياً جوهرياً بين البلدين، لكن وصوله إلى مرحلة اعتبار الأردن تهديداً لأمنها، على الرغم من الحقيقة الجغرافية التي تقول إن البلدين بعيدان عن بعضهما بعضاً، يطرح سؤالاً يتعلق بالنظام الدولي السائد الذي انتقل من ثنائية القطبية إلى أحادية القطبية، لكنه خلق في الوقت ذاته معسكراً آخر بلا قطب دولي متعارف عليه، وهو معسكر أبرز ما يميزه أنه يرفض سياسات وأجندات القطب الأوحد. في هذا السياق جاءت مواقف النظام السياسي الإيراني، فهو بطبيعته السياسية التي اختارت ألا تكون - شرقية ولا غربية- عززت من فرص القطب الآخر في تلقي ما تفعله بكونه تهديداً يتجاوز حدود العالم. إن حجم التناقض الكبير بين واشنطن وطهران بخاصة، وبين إيران والغرب بعامة، يزج بنفسه في الإقليم الذي يعد الأردن جزءاً منه، لا سيما إذا تذكرنا أن الطرح الإسلامي الذي تقدمه إيران - بغض النظر عن قناعة البعض بجديته أو أنه فقط أداة سياسية- فإنه يشكل عامل تعارض جوهري مع دول علمانية ترى في خيارها ضمانا لاستمرارها. في الحالة الأردنية، يبدو واضحاً أن هناك ملفاً أمنياً بين البلدين أشار إليه كاتب هذه السطور في مقالة نشرتها صحيفة «الرأي » الأردنية العام 1998 ، وهو ملف لا يعرف الرأي العام سوى النزر اليسير عنه من خلال تصريح هنا أو تصريح هناك، لكنه يبقى في دائرة سرية قد تتحرك بين دوائر أمنية وسياسية محدودة. هذا الملف يتقدم ويتراجع متأثراً بالمشهد السياسي الإقليمي، ولعل التطورات الإقليمية المتتالية مثل: احتلال العراق، ونجاح حماس في الانتخابات الفلسطينية العام 2006 ، كانت مؤثرات زادت من حدة التوتر في العلاقة بين البلدين، الذي هو، في الأساس، ذو صفة إقليمية، ومن ثم دولية. حالة القلق الأردني هذه قد تشاطره فيها دول مثل: السعودية، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، والمغرب التي قررت مؤخراً قطع علاقاتها مع طهران. إن أي تغير داخلي إيراني رهن بقدوم نخبة سياسية تتبنى رؤية قريبة لرؤية الإصلاحيين، وحصول انفراجات إقليمية في ما يتعلق بالمشهد الفلسطيني، واللبناني، والعراقي، وهي انفراجات تتعلق بتقوية دور الدولة وتجاوز حالات الانقسام الداخلي، لكن الأهم، ربما، هو ما يتعلق بفتح فصل جديد في العلاقة بين واشنطن وطهران، والذي يعني في حال حدوثه تغيراً نوعياً في شكل النظام الإقليمي وتحالفاته وتعريفه لمصادر التهديد. |
|
|||||||||||||