العدد 66 - ثقافي
 

فيصل دراج

في نهاية العام 1999 قام الفيزيائي الروسي «نيقولاي ايفا نوفيتش » بالكشف عمّا دعاه : «شهادة القرن. الوصية السياسية : أفكار بليخانوف الأخيرة .» تنطوي الشهادة - الوصية على أهمية خاصة لأكثر من سبب: فهي صادرة عن ماركسي روسي شهير، أدى دوراً كبير في الحركة الاشتراكية التي أفضت إلى ثورة أكتوبر العام 1971 ، واعتبر ذاته الأب الروحي - سيئ الحظ - لقائد الثورة الروسية : لينين، مؤسس الدولة الاشتراكية الأولى في تاريخ البشرية، التي أدت دوراً محورياً في القرن العشرين، تحت اسم شهير هو: الاتحاد السوفييتي. يعود السبب الثاني إلى التحليل - الرؤيا، الذي تضمنته الوثيقة التي تنبأت بالسقوط الحتمي للاتحاد السوفييتي – كتبَ بليخانوف أفكاره العام 1918 – وشرحت نظرياً أسبابه والعوامل التي دفعت إليه. يتمثل السبب الثالث في المعنى الرمزي لثورة أكتوبر على المستوى الكوني، التي بدت لملايين من البشر، ذات مرة، إعلاناً عن خلاص البشرية الأخير.

يحمل السبب الثاني، من وجهة نظر «الوصية »، دلالة خاصة، تعود إلى وجهه التنبؤي، بلغة معينة أو إلى بصيرته النظرية، بلغة أخرى، ذلك أن بليخانوف أراد أن يكون ماركسياً وهو يحلل حدثاً تاريخياً يرفع راية الماركسية، ظاهرياً على الأقل، وأن يبرهن أن ماركسية لينين شوّهت ماركسية ماركس، وألحقت بها أضراراً جسيمة بعيدة المدى. سمح لنفسه، في الحالين، أن يأخذ بالمنهج الماركسي بشكل طليق، وأن ينبذ القراءة المتحزبة الفقيرة، القائمة على الاستظهار العقيم. لا غرابة أن يعدّه البلاشفة، أو بعضهم، «منحرفاً »، وأن يبدو «منحرفاً » عند «عقول ثورية » تمتد إلى اليوم.

تقول الفكرة الأساسية الأولى التي يعلنها بليخانوف في وصيته: «إن دكتاتورية الطبقة العاملة بمفهوم ماركس لن تتحقق أبداً – لا الآن ولا في المستقبل ». لا تنقص الجرأة هذا الاستبصار أبداً، فصاحبه ماركسي معلن وينتمي إلى ماركس بلا مواربة ويدافع عن ضرورة الاشتراكية، دون أن يضع ذهنه في قفص، أو أن يضع النظرية فوق معطيات الحياة. جاء الثوري الجريء بفكرته في ذروة ثورة أكتوبر التي أوكل إليها لينين، باطمئنان كبير، تحقيق : دكتاتورية الطبقة العاملة. من الغريب أن يصل بليخانوف إلى ما وصل إليه، في أيامه الأخيرة من العام 1918 ، وأن يستمر ماركسيون كبار في منتصف سبعينيات القرن الماضي، في الدفاع عن «دكتاتورية البروليتاريا »، حال الفرنسي إيتين باليبار، تلميذ الشهير آلتوسير وأحد أكثر أنصاره شهرة.

أمّا الفكرة الثانية فتقول: «بقدر التغيّر النوعي لقوى الإنتاج سوف تتشكل طبقات جديدة، وعلقات إنتاج جديدة، وسيجري الصراع الطبقي بشكل جديد ». لن يصل علماء الاجتماع الماركسيون، وخارج «الماركسية الرسمية » على أية حال، إلى ما وصل إليه بليخانوف إلا في بدايات العقد السابع من القرن الماضي قائلين: «وداعاً للبروليتاريا »، دون أن يؤثر اجتهادهم في سياسات الأحزاب الشيوعية، باستثناء الحزب الشيوعي الإيطالي، وبشيء من التعثر أيضاً.

والأساسي في هذا هو تلك الثنائية الثابتة: الطبقة العاملة/البرجوازية، التي قالت بها الماركسية السوفييتية، ورددتها أحزاب كثيرة، حتى تلك التي لا يوجد في بلدانها، تقريباً طبقة عاملة. الفكرة اللاحقة التي لا تقلّ بصيرة عما سبقها هي: «إنني أحياناً أفكر في الفترة الأخيرة أنه حتى نظرية ماركس التي ولدت في ظروف الحضارة الأوروبية، من المشكوك فيه أن تصبح نظاماً عاماً لوجهات النظر، لأن التطور الاجتماعي - الاقتصادي للعالم يمكن: أن يسير على نمط المراكز المتعددة... ». لن تنتشر الماركسية أوروبية الجذور أوروبياً، بسبب المراكز المتعددة المحتملة، ولن تنتشر، بالضرورة، عالمياً بسبب أوروبيتها. أكد بليخانوف في استبصاره اللامع أمرين: أن ردود أفعال أوروبا على الثورة الروسية، ستفرض على حكوماتها أن تتخذ إجراءات واحتياطات تمنعان هيمنة الماركسية، وأن ما هو خارج أوروبا لن يسلّم بمبادئ نظرية أوروبية المصادر. ومع أن دعاة الماركسية، المخلصين منهم أو المفكرين - الموظفين، دافعوا «عن كونية النظرية »، فقد برهنت «الماركسيات » الصينية، والكورية، والفيتنامية، وصولاً إلى «ماركسية الصومال وأثيوبيا » عن صحة خواطر بليخانوف، بعد عقود. رأى الثوري الروسي، في كلماته القصيرة، ما سيقول به ماركسيون غير رسميين، بعد عقود، حين تحدثوا عن : المركز والأطراف، والتطور اللامتكافئ، ونظريات التبعية بشكل عام.

وواقع الأمر أن بليخانوف أراد ان يكون «مادياً تاريخياً »، قبل أن يكون ماركسياً،وأن يكون مثقفاً شكوكاً قبل أن يكون ماركسياً يبحث عن الحقيقة، رافضاً أن يساوي الماركسية بالحقيقة، أو بغيرها من النظريات. يقول بليخانوف في الفكرة الرابعة : «لا أعتقد كثيراً،....، أن الرأسمالية ستدفن قريباً،...، لأنها شكل اجتماعي مرن يبدي ردود أفعال على الصراع الاجتماعي، يتغيّر ويتجوّل ويتكيّف، يتأنسن ويتحرك في اتجاه فهم وإدراك وتكييف أفكار متفرقة من الاشتراكية. إذا كان الأمر كذلك، فهي، إذاً، لا تحتاج إلى حفّار قبور. وفي كل الأحوال، فالرأسمالية لديها مستقبل يبعث على الحسد... .» إنها قدرة الشكل الاجتماعي المرن على التعلم والتكيّف والتطور، الذي يضمن له البقاء على قيد الحياة، على خلاف الشكل

البيروقراطي المغلق المتكلس، الذي يعارض سلطة الحياة بسلطة تتحالف مع الموت. من الطريف، أو المأساوي، أن حفّار القبور، الذي تحدّث عنه الفرنسي روجيه غارودي، في خمسينيات القرن الماضي، عثر على عمل في «النظام الاشتراكي »، مبتعداً عن رأسمالية لها مستقبل يثير الحسد!!.

لم يكن بليخانوف، يثني على الرأسمالية بقدر ما كان يتأسى على «دولة اشتراكية وليدة » وقعت في أكثر من خطأ. قرأ صاحب «الوصية » الظواهر في تاريخيتها، إذ إن وضع الطبقة العاملة الأوروبية في بداية القرن التاسع عشر اختلف عما أصبحته في نهايته، وزاد الأمر اختلافاً في بدايات القرن العشرين، وأن العامل، او البروليتاري، أو «الشغيل » سيأخذ، في المستقبل، دلالات جديدة. تحدث بليخانوف كثيراً عن «الأنتلجنسيا » - المثقفون في أشكالهم المختلفة، بينما سيتحدث علماء الاجتماع الماركسيون، لاحقاً، عن «الياقات الزرقاء » و «الياقات البيضاء »، مشيرين إلى العمال - المهندسين، أو العمال الذين يتميّزون بمهارات تقنية علمية.

بعد أن لامس بعض أفكار ماركس من وجهة نظر مستقبلية، إن صح القول، أخضع بليخانوف البلشفية، أي الحزب الشيوعي الروسي في شكله للينيني، إلى نقد شديد: فسّر صعود البلشفية، التي ولدت العام 1903 ، بتخلّف البروليتاريا الروسية، وكثرة العناصر اللاطبقية - أي الرعاع بلغة أخرى - وصولاً إلى ما يدعوه ب «البروليتاريا الجائعة المتوحشة »، بلغة باكونين، التي «لا تعرف حتى مبادئ الاشتراكية العلمية ». تضع هذه الصفات في البروليتاريا الروسية استعداداً كبيراً للامتثال، والطاعة العمياء، وتقديس الزعيم، وتحولها إلى «بيروقراطيين حزبيين أسوأ من الموظفين القيصريين » وتدفعها إلى العنف المتطرّف الذي يتاخم الإرهاب. وصل بليخانوف، وهو ينقد البلشفية، إلى أربع نتائج أساسية: إن وصول البلشفية إلى السلطة سيؤدي إلى تخلّف روسيا لا إلى تقدمها، وأن التجربة الاشتراكية التي اخترعها لينين مصيرها الفشل الحتمي، وأنهاستنتج تناقضات في المجتمع الروسي أكثر مأساوية من تناقضات المجتمع الرأسمالي، وأن دكتاتورية البروليتاريا على الطريقة اللينينة تفضي إلى دكتاتورية الحزب الواحد، التي هي دكتاتورية قائده لا غير. لن تكون الماركسية البلشفية، والحال هذه، إلا شكلاً بائساً ومتخلفاً من الماركسية، لن يسعف البروليتاريا الغربية في شيء، بل سيؤثر سلباً في مسارها.

تتعيّن البلشفية، إذاً، محصلة لتمازج عناصر سلبية ثلاثة: البروليتاريا الرثة أو حثالة البروليتاريا، بلغة بليخانوف، وتقاليد العنف الثوري في أكثر أشكالها تطرفاً وعماء، وماركسية بدائية فجة، تخدم أغراض لينين وتسيء إلى الاشتراكية إساءة قاتلة. والنتيجة المرتقبة سلسلة من الأزمات، القابلة للحصار، وصولاً إلى الأزمة الأيديولوجية التي تعني «تحلّل السلطة البلشفية من داخلها » وسقوط المشروع الاشتراكي، الذي سيخلّف آثاراً مأساوية على الحركة الاشتراكية في العالم كله. ورغم هجوم بليخانوف الكاسح على لينين، واتهامه له بالتسلّط والاستبداد بالرأي والإيمانية المطلقة والتشجيع على العنف والعنف اللغوي الذي يتجاوز الأصول والفصل بين السياسة والأخلاق...، فإن وراء هذه النعوت جميعاً إعجاباً مضمراً، أو إعجاباً مضطرباً هو مزيج من الرفض والحسد، كما لو كان بليخانوف يثأر لنفسه أو يصفي حساباً مع قائد نوعي، اختلف معه وهمّشه في آن.

ولهذا يطلق كمّاً هائلاً من النعوت السلبية على لينين، تتضمن البذاءة والتهوّر ومحدودية الثقافة، ليعود في النهاية ويسأل: «إذن فمن هو لينين؟ هو روبسبير القرن العشرين. ولكن إذا كان الأخير قد قطع رؤوس مئات من الأبرياء، فلينين قطع رؤوس الملايين. .» يُختصر السلب كله إلى العنف، ويختصر لينين إلى روبيسير، أحد قادة الثورة الفرنسية، التي هي أعظم ثورة في التاريخ الحديث. وحين يقوّم بليخانوف شخصية تروتسكي التي

ينظر إليها باحتقار كبير، يعود ويثني بشكل غير مباشر على شخصية لينين: فقد كان الأخير محقاً في تقويمه لتروتسكي، وهو «أستاذ ماهر بقدرته على تجميع كل من يرغب تحت رايته »، إلى أن يقول : «إن لينين زعيم البلاشفة لم يكن أبداً ليوافق على أن يكون زعيم أية مجموعة أخرى. أما بالنسبة لتروتسكي، فأهم شيء لديه هو أن يكون زعيماً دون النظر إلى طبيعة الحزب الذي يريد أن يكون زعيماً عليه .» تحمل الجملة القائلة: «إن البلشفي لينين يرفض أن يكون زعيماً لأي حزب غير بلشفي »، دلالات كثيرة: قاتل لينين من أجل قضية الاشتراكية مدفوعاً بإيمانية مطلقة، تضع القضية فوق الذات والغاية فوق الوسيلة والفكرة فوق العناصر المستخدمة في الدفاع عنها. تنسحب، عندها، تعابير التطرف والعنف والإرهاب لصالح فكرة : «الأنا الرسولية » التي تخوض قتالاً ضارياً من أجل تحقيق خير إنساني، أو «الأنا الرومانسية الهائلة »، التي تحلم بتغيير العالم. وواقع الأمر أن هذه «الأنا » لا تتآلف كثيراً مع «حثالة البروليتاريا »، إضافة إلى أن التسلح ب «الحثالة » لا يمكن أن يحقق ثورة، هي الأكبر والأكثر طموحاً في القرن العشرين. ولم يكن بإمكان الاتحاد السوفييتي، رغم بيروقراطيته الكاسحة، أن يؤدي دوره التحريضي الهائل، ولا أن ينجز ما أنجزه في مجالات كثيرة، لو كان حزبه القائد مجرد «بروليتاريا رثة » لا تحسن القراءة والكتابة ولا تعرف مبادئ «الاشتراكية العلمية ». أكثر من ذلك أن سقوط الاتحاد السوفييتي لا يفسّر فقط ب «الأزمة الأيديولوجية »، وكانت قائمة على أية حال، بل يحتاج أيضاً إلى التوقف أمام ذلك ا لحصار الرأسمالي الهائل، الذي بدأ مع ولادة ثورة أكتوبر، ولم ينته إلاّ بسقوط الاتحاد السوفييتي، وجعْل من روسيا «قلعة محاصرة » بشكل مستمر. اتكأ بليخانوف في «وصيته » على فكرتين تقول الأول: تفتقر روسيا إلى الشروط الموضوعية التي يحتاجها بناء الاشتراكية، وتقول الثانية إن الوصول إلى الحقيقة الأخيرة أمر مستحيل. غير أن الصحة النسبية للفكرتين لا تمنع من طرح سؤالين: إلى أي مدى يستطيع مفكر أخلاقي كبير مثل بليخانوف أن يكون نزيهاً وموضوعياً في أحكامه؟ وما هي حدود التداخل بين الأفكار الكبيرة وطبائع المفكرين؟ فهناك ماركسية لينين، وماركسية بليخانوف، وثالثة خاصة بتروتسكي، ورابعة لدى غرامشي، وخامسة عند آلتوسير... وماوتسي تونغ وجيفارا والساندينيين... ما هي ماركسية ماركس في هذه الماركسيات جميعاً، ومن هو الطرف الذي يمتلك الحقيقة أكثر من غيره؟. كان بليخانوف محقاً عندما قال : «حاولت في البداية العثور على الحقيقة النهائية، لكن لحسن الحظ سرعان ما أدركت أنها غير موجود، ولا يمكن أن تكون موجودة ». وإذا كانت الحقيقة النهائية غير موجودة تحدث لينين عن نسبية الحقيقة فما هي نسبة الحقيقة النهائية في تقويم بليخانوف للثورة البلشفية؟ يتضمن السؤال شيئاً من المأساة، أو مأساة بصيغة الجمع.

على هامش وثيقة عثر عليها مؤخراً نبوءة بليخانوف: الوصول للحقيقة مستحيل
 
05-Mar-2009
 
العدد 66