العدد 66 - ثقافي
 

عواد علي

حين يُذكر جيل الستينيات في المسرح العربي، بخاصة من جرّب منهم أساليب التجريب والرؤى المسرحية الحديثة على اختلافها، يأتي اسم المخرج والممثل والكاتب اللبناني روجيه عساف، في المقدمة، فهو واحد من رموزه الطليعيين والمجددين.

تفتحت موهبة عسّاف مع الأعمال الفرنسية الجادّة في المركز المسرحي الجامعي بكلية الآداب، ثم في مسرح بيروت ابتداءً من العام 1965 ، وبدأت تجاربه تنضج في محترف بيروت للمسرح، الذي أسسه مع نضال الأشقر العام 1968 ، واستمر أربع سنوات، من خلال العمل الجماعي في مسرحيات عديدة منها: «مجدلون » و «إضراب الحرامية »، وفي المسرح الوطني الشعبي «مسرح شوشو »، الذي أخرج له أعمالاً مهمة أبرزها «آخ يا بلدنا .» ومع تأسيسه لفرقة المسرح الحكواتي بعد نشوب الحرب الأهلية اللبنانية، حقق عساف قفزةً نوعيةً في تجاربه المسرحية، بخاصة في تجربتيه الشهيرتين «من حكايات سنة »1936 ) 1979 (، و «أيام الخيام 1982( » (، التي فازت بجائزة أفضل عرض مسرحي متكامل في الدورة الأولى لأيام قرطاج المسرحية. انطلقت التجربة الأولى من قصة واقعية شعبية، جرت أحداثها في منطقة «بنت جبيل » اللبنانية العام 1936 ، عندما هاجمت الجماهير السراي للإفراج عن زعمائها الوطنيين الذين اعتقلتهم سلطات الانتداب الفرنسي، في الوقت الذي كانت تجري فيه أضخم الانتفاضات الشعبية المسلحة التي شملت أنحاء سورية، وفلسطين، ولبنان، ضد التجزئة وسياسة الاستعمار الفرنسي والبريطاني والصهيونية. اتسم العرض بطابع احتفالي وملحمي تجنب فيه عسّاف الإسقاطات الذهنية أو السياسية الخارجية الجاهزة، فأظهر الشعبَ، بنضالاته اليومية وملامحها العامة، البطلَ والطاقة التي تتبلور باستمرار لتجد أدواتها في تغيير الواقع. واستخدم في تجسيد ذلك شخصية «الحكواتي » الذي يروي الحكايات الشعبية مباشرةً، وتقنياتٍ فنيةً مثل: السلايدات، والسينما، ومسرح الدمى في تأدية بعض المشاهد. كان عساف يسعى من خلال هذا العرض، وعروض فرقة الحكواتي اللاحقة، إلى تحقيق الطموح الذي قدمه في «بيانه المسرحي ،» وهو «إيجاد نمط جديد في علاقة الجمهور المعني )أي الفئات الشعبية( بالإنتاج المسرحي. وهذا النمط الجديد هو بالتحديد تحويل رؤية المشاهدين من رؤية سكونية إلى رؤية فاعلة تتيح لهم إمكانية المشاركة المجدية في الممارسة المسرحية .»

يرى بعض النقاد أن روجيه عساف تأثر في هذا العرض بتجربة «مسرح الشمس » الفرنسي من ناحية منهج العمل الجماعي وكتابة النص والفضاء المسرحي والتمثيل والعلاقة بالمتلقي، بل ثمة تشابه حتى في عنوان المسرحية »1936« مع مسرحيتَي فرقة الشمس »1789« ، و .»1793« أما التجربة الثانية، فقد عرضت مأساة بلدة «الخيام » الجنوبية الواقعة على الحدود اللبنانية الفلسطينية، التي ارتكب فيها الجيش الإسرائيلي مجزرة فظيعة، فهجرها ما تبقى من أهلها هرباً من العدوان. تبدو هذه المأساة كأنها لملمة لذاكرة تلك البلدة الشعبية، ذاكرتها المطعونة والمختلفة بأعيادها وطفولتها وعاداتها. كما أنها حكاية كفاح طويل وتحمّل وصبر وألم لبلدة كادت تختصر، في بعض مراحلها، قصة لبنان كله من أقصاه إلى أقصاه، والمواطن الرازح تحت وطأة الاحتلال والتهديد بالقتل والتدمير، والصراعات المحلية والدولية.

وكما نهج عساف في «حكايات من سنة »1936 ، فقد صاغ هذا العرض بأسلوب المسرح الحكواتي وتقنياته، فكل شيء مستنبط من مادته الأولية، لكن ليعاد تشكيله تشكيلاً مسرحياً مرهفاً ودقيقاً ومدروساً. ولم يكتفِ بعرضه في قاعات تقليدية، بل خرج به إلى أماكن مفتوحة، فقدمه في الهواء الطلق، والقرى، ووسع دائرة مشاركة المتلقي ليصبح المشارك الأبرز في التجربة. أخرج عساف بعد تلك الأعمال: «الجرس » لرفيق علي أحمد، و «زواريب » لممدوح عدوان، و «مذكرات أيوب » لإلياس خوري، وقدّم «المغنية الصلعاء » و «سمر » في باريس، و «كان ويكون » في القاهرة، و «المسيان » في مهرجان «بيت الدين » في لبنان، و «لوسي المرأة العمودية ،» و «جنينة الصنائع »، وأخيراً «بوابة فاطمة » على خشبة مسرح «دوار الشمس » في بيروت. المسرحية الأخيرة من تمثيله، مع حنان الحاج علي، وياسمينا طوبيا. يشير عنوانها إلى معبر يقع في قرية «كفركلاّ » الحدودية بين لبنان وفلسطين المحتلة، لكنه، استناداً إلى ما شهدته المنطقة والمرحلة من أحداث تأرجحت بين الاحتلال والتحرير والحرب المتجددة، لم يعد مجرد اسم لموقع جغرافي، بل تحول إلى معبر للأفكار والتداعيات والرؤى، حتى صار ذكر «بوابة فاطمة » يستدعي فتح ستارة المخيلة على التجارب المأساوية والذكريات المؤلمة، وأن تُطرح الأسئلة المقلقة التي يصعب الركون إلى إجابات حاسمة بشأنها، ولا تقتصر على الحدود المشتعلة وحدها، وإنما تتعداها إلى صميم الوطن المتعددة مداخله، والحافلة رؤى قاطنيه بمفارقات كلية التناقض.

«بوابة فاطمة » أكثر من عرض مسرحي. إنه احتفال تراجيدي يستعيد الحرب اللبنانية الإسرائيلية في تموز/يوليو 2006 عبر نثار قصص وصور ومشاهد. ويهرب عسّاف من خلاله إلى فضاء الحكاية، ليصوغ رؤيته السوداويّة لعالم متصدّع، لشعب يبحث عن خلاص. مثلما عُرف عساف مبدعاً في الإخراج، فإنه مبدع في التمثيل أيضاً، وقد أتيحت لكاتب هذه السطور فرصة مشاهدته على المسرح قبل عشر سنين في عرض «أرخبيل » الذي أخرجه عصام أبو خالد لفرقة مسرح بيروت، وقُدّم في أيام عمّان المسرحية. أدى عساف في تلك المسرحية دور أعمى كان طبيباً يحقن أسرى الحرب بالمورفين حتى لا يتألموا عندما تقطع أجسادهم. كان العرض، الذي تجري أحداثه في موقع للنفايات يمتد من بيروت باتجاه جزيرة قبرص، يشير إلى مأساة الإنسان في عالم حوّلته الحروب ووسائل الدمار التي ينتجها التطور التكنولوجي إلى نفايات وقاذورات تقضي عليه.

من مأساة بلدة “الخيام” إلى معبر “فاطمة” روجيه عسّاف:مسرحي طليعي لا ينضب
 
05-Mar-2009
 
العدد 66