العدد 66 - أعلام
 

السجل - خاص

عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، باختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس

على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.

ينتمي الفلسطيني خليل السكاكيني ( 1878 - 1953 )، الذي اقترحه طه حسين عضواً في «مجمع اللغة العربية في القاهرة » في الشهر الأول لعام النكبة، إلى جيل من التنويريين العرب، حلم بدولة وطنية مستقلة، تعالج قضايا مجتمعها بوسائل حديثة، وتتخذ من الحداثة منظوراً للعالم. ولعل دفاعه عن حداثة مرغوبة هو الذي أملى عليه، كغيره من التنويريين، الانشغال بمعارف متعددة، تتضمن الموروث الأدبي واللغوي وتنفتح على الثقافة الأوروبية، واستعمال ثقافته في الدفاع عن القضايا الوطنية والقومية. ومع أنه وَضَعَ كُتباً في الأدب واللغة والتربية، فإنّ إنجازه الأكبر يتمثّل في مذكرات واسعة أقرب إلى الندرة، سجّل فيها ما عاشه منذ مطلع القرن العشرين، تقريباً، إلى عام الهجرة القسرية من فلسطين.

دعا السكاكيني إلى إنسان طليق، وربطَ بين الإنسان الحر والدفاع عن القيم، وبين القيم العاقلة ومدينة فاضلة، سيصل الإنسان إليها ذات يوم. قاده إيمانه بإمكانيات الإنسان المبدعة إلى «قراءة إنسانية » للأديان السماوية، فأحب السيد المسيح، وأعجب بالرسول العربي إعجاباً كبيراً، من دون أن يمنعه هذا عن قراءة الفيلسوف الألماني نيتشه. عاش خياره الفكري متسقاً، مشدوداً إلى فكرة الإنسان الفاعل، ومؤمناً بقدرة الإنسان على بناء فردوس أرضي. ولهذا يقول في رسالة إلى ابنه سري: «ليذهب إلى السماء من شاء، وأما نحن فإننا نحب أن نعيش على هذه الأرض فنجعل منها سماء ». لا يعبث هذا الحديث بالمقدسات، ذلك أنه يرى الإبداع الإنساني جزءاً من العبادة الحقة. أراد «شيخ المربّين »، كما يوصَف، في دفاعه عن الإنسان الفاعل، الاحتجاج على ثقافة قدرية متوارثة، واستنهاض مجتمع فلسطيني مثقل بالأميّة والتخلّف و «قيادة سياسية » توطّد الأمراض. قال ذات مرة في لحظة نكد: «إن سادات هذه الأمة شحّاذون وفوق ذلك وقحون ». كان يشير، كما جاء في مذكراته، إلى هؤلاء الذين يقولون للشعب شيئاً في الصباح، ويقولون لأعداء الشعب الفلسطيني أشياء مغايرة في المساء. ولأنّ أعداء الشعب كانوا يخدعونه بجمل رنّانة فارغة، حاول السكاكيني أن ينشر وعياً جديداً، تعلّم مبادئه من فرح أنطون، حين تردّد إليه في الولايات المتحدة، خلال رحلة خائبة أملتها حاجات الحياة.

ارتكن وعي السكاكيني، الذي مارس الصحافة والمحاماة والتعليم، إلى ثلاثة أفكار رئيسية: الدفاع عن قومية عربية ثقافية، تتمثل بالثقافة واللغة والموروث وبطموح وحدوي، لا يسمح لها الاستعمار بالتحقق. ولعل شعوره القومي هو الذي أوعز إليه، بعد عودته من الولايات المتحدة في صيف 1908 ، أن يدخل في صراع، وهو الأرثوذكسي، مع الكنيسة الأرثوذكسية التي كان يسيطر عليها الإكليروس اليوناني، وأن ينسحب منها صارخاً: «لست أرثوذكسياً، لست أرثوذكسياً »، بل يكتب: «لا أستطيع أن أكون تحت رئاسة هؤلاء الرهبان الفاسدين المحطين، ولا من تلك الملة المنحطة ». تمرّد المسيحي العربي على كنيسة يسيطر عليها رهبان غير عرب، بقدر ما هجا وعياً فلسطينياً طائفياً، يدافع عن الوطن بوعي غير وطني. لا غرابة أن تكون الفكرة الثانية، هي: الوطنية، التي تشجب الانتماءات الطائفية والجهوية والعائلية، وتؤجّل المصلحة الوطنية إلى أجل غير مسمّى.

استولد السكاكيني الوطنية من وعي قومي، واستولدها أولاً من وضع فلسطيني يجثم عليه الكابوس الصهيوني. آثر، في الحالين، أن يجمع بين الفكر والممارسة، وبين ثقافة الكتب وحرارة الإحساس، وأن يكون ذلك المثقف الحديث، الذي يعمل وينقد ويستنهض، حالماً بمجتمع مدني تحرّر من هيمنة الأعيان والمتزعّمين. ولذلك عمل على إصلاح شؤون الطائفة العربية الأرثوذكسية، وساهم في جمعيات «الاتحاد والترقي » و «الإخاء الأرثوذكسي » و «الإخاء العربي »، كل ذلك العام 1908 ، وأصدر صحيفة «الدستور » العام 1910 ، بالتعاون مع جميل الخالدي. وبعد أن مر بتجربة السجون العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، شارك في المؤتمر الوطني الموسع الذي عقد في القدس العام 1918 ، وأصبح أمين سر اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني العام 1922 ، وصاغ نشيد الثورة العربية العام 1918 ، ونشيد الإخاء الأرثوذكسي العام 1933 ، وهاجم صحفاً مصرية، مثل «المقطم » و «الأهرام »، تفسح «صدر الصفحات الأولى فيها لكتّاب صهاينة ».. جمع هذا الأديب، بين الالتزام الوطني والنزاهة الأخلاقية العالية، على مبعدة عن متزعمين «شحاذين » يضعون مصالحهم فوق المصلحة الوطنية. ترجم السكاكيني، صورة المثقف الذي ينقض المواعظ الرتيبة بالصحيفة، و «الكتاتيب الصغيرة » بالجمعيات الاجتماعية، والتصورات الفقيرة بمنظور إنساني شامل. لا غرابة أن يقول: «إن العقول التي أنارت العالم ليست عقول آلهة، بل هي عقول البشر ،» أو أن يقول: «أنا لست مسيحياً ولا بوذياً ولا مسلماً ولا يهودياً، كما أنني لست عربياً ولا إنجليزياً ولا فرنساوياً ولا ألمانياً ولا تركياً. بل أنا فرد من أفراد هذه الإنسانية ». لم يكن هذا الفلسطيني، الذي استقال من دار المعلمين في القدس احتجاجاً على مجيء المندوب السامي الصهيوني هربرت صموئيل، يستخف بدينه ولا بقوميته، بل كان يعبّر عن رفضه للانغلاق والاحتفاء بالحضارة الإنسانية. لم تمنعه نزعته الإنسانية عن أن يرد على الأقلام الصهيونية الداعية إلى «إبادة العرب بطريقة هادئة ولكن مستمرة »، وأن يهاجم الدول الأوروبية التي تمتثل إلى الإرادة الصهيونية، وأن يحرّض على المدارس التبشيرية التي «لا تعرف أحوالنا ولا تشعر بحاجاتنا .» إذا كان المثقف الاحترافي، بلغة إدوارد سعيد، يختصر الثقافة إلى مهنة وريع، فقد شاء السكاكيني أن يقترح سياسة ثقافية عنوانها : المدرسة الحديثة. تابع في خياره تقليداً تنويرياً أعلى من شأن المدرسة، أخذ به الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين، وطبّق منهجاً يقول : «إن المدرسة مصنع الرجال »، وأدرك أن فلسطين لا تحتاج إلى «مدرسة مليّة » تضعف معنى الموطن، فما هي بحاجة إليه مدرسة جديدة، تنبذ الاستظهار والتلقين، وتنجب تلميذاً لا يرى في «التعليم إدخاراً واستظهاراً، بل حياة واستعمالاً .» وهذه المدرسة، التي تُخرّج «شخصاً جديداً وجيداً ،» «أقرب أن تكون مكان تربّ و تعلّم لا مكا ن تربية وتعليم. أي إن الطلاب يربّون أنفسهم بأنفسهم ويعلّمون أنفسهم بأنفسهم، ويحلّون مشاكلهم بأنفسهم. وإذا استعصى مشكل لجأنا إلى العقل لا إلى السطوة، فإذا كان الحق في جانبنا اعتذروا، وإن كان الحق في جانبهم اعتذرنا .» نقضت مدرسة السكاكيني مدرسة مسيطرة، قوامها السطوة والإذعان، يقمع المعلّم فيها تلميذه، ويقمع تلميذه غيره من المقموعين. أقام المربي مدرسته على مبدأين: استقل شخصية التلميذ، والعمل على تطويرها، وكل ما «يطلق الحرية ويكبر النفوس ويوسع الآمال ويستنهض الهمم »، ومبدأ تساوي البشر، الذي يرى في المعلم تلميذاً، وفي التلميذ معلماً، و يجعل الطرفين يتبادلان خبرات متباينة. قال السكاكيني : «يهمني أن أسعى في إنهاض هذه الأمة التعسة وإقالتها من عثرتها »، ومحاربة «تفشّي الأمية واستحكام التعصّب وصولاً إلى بشر يرون في الحاكم إلهاً ». وإذا كانت مدرسة «الأمة التعسة » تنسب إلى الطلاب ما شاءت من العيوب، فقد برّأ السكاكيني الطلاب من العيوب، وهاجم المدرسة الفقيرة التي تساوي بين العبودية والفضيلة. فلا ضرورة لمدرسة تمحو الأميّة وتعلّم الخضوع، ذلك «أن من واجب المدارس الجديدة أن تعلم الناس الثورة لست أعني (ثورة السلاح) فإن ثورة السلاح أهون الثورات.. وإنما أعني الثورة على كل قديم بال، على الأخلاق الفاسدة، على النظم المعوجّة .» لازم حلم المدرسة الجديدة السكاكيني طيلة حياته، فأسس المدرسة الدستورية في القدس العام 1909 ، وأصبح مسؤولاً في لجنة إصلاح التعليم العام 1914 ، ومديراً لدار المعلمين في القدس العام 1919 ، وأسس بعد تقاعده «كلية النهضة » أو «مصنع الرجال »، كما قال، في العام 1938 . تشكّل المدرسة في هذا المنظور عنصراً مسيطراً في عملية التحديث الاجتماعي، وتقترح العناصر الأخرى وتصوغها وتعيّن وظيفتها.

تتحدّد هذه العناصر، كما رآها السكاكيني في مقالته «وسائط تنبيه الشعور الوطني في الأمة العربية » بخمسة عناصر: المدارس، الجمعيات، الصحف، التمثيل والمعابد. وهذه العناصر لا معنى لها في ذاتها، فالمعنى قائم في المنظور الذي يمكن أن يحوّلها إلى عناصر شكلية فارغة، تعيد إنتاج التخلّف القائم، أو إلى عناصر حيّة نقديّة تأخذ بيد المجتمع إلى التقدّم والرقي. أراد السكاكيني أن يكون مثقفاً حديثاً، يتكئ على المدرسة والثقافة والجمعيات السياسية، ويتحدّث عن المسرح والفنون. غير أن مجتمعه المثقل بالأمية والثقافة القدرية وسياسة الأعيان والعنف الاستعماري

الإنجليزي والتآمر الصهيوني ترك مشروعه معلقاً في الفضاء. ولهذا كان في مركز الحياة الوطنية وخارجها معاً: كان في مركزها وهو يشارك في كل فعل وطني، وكان خارجها بسبب سيطرة التقليدي والمتخلّف. قال مرة متأسياً: «إن الشعوب إذا شبعت ثارت لا إذا جاعت ثارت ». كان يهجس بمجتمع فلسطيني قادر على الدفاع عن أرضه، قبل أن يخرج مع شعبه إلى منفى لم يرجع منه، ويستقر في قبر في ضواحي القاهرة.

خليل السكاكيني: نحو مدرسة تهذب العقول التعيسة
 
05-Mar-2009
 
العدد 66