العدد 66 - دولي
 

ستيفن غلين

بين العامين 1998 و 2001 ، وكنت خلالها مراسلا في عمان، أود أن أشير إلى أنني زرت العراق مرة أو مرتين. كان من الصعب علي الحصول على تأشيرة، وكانت الرحلة التي تستغرق نحو 14 ساعة عبر أرض صحراوية قاحلة رحلة شاقة. ولكنني سرعان ما أنشأت صداقات حميمة في العراق وكنت أتطلع إلى الاجتماع بهؤلاء الأصدقاء.

منذ اللحظة التي عبرت فيها الحدود إلى ذلك البلد أصبحت جزءا من دوامة الاقتصاد السري، فقد كان متوقعا مني أن أدفع رسوما باهظة لفحص الإيدز على الحدود، على الرغم من أنني كنت أستطيع تفاديه بدفع مبلغ أعلى. )كانت الحاقنات نظيفة على الدوام(. وفور وصولنا، كان علي أن أفتش في وزارة الإعلام، حيث كان مطلوبا مني أن أدفع مقدما لقاء خدمات مختلفة أحصل عليها – رسم مرافق، مثلا، أو للسماح لي باستخدام هاتف يعمل من خلال الأقمار الصناعية في بلد كانت فيه الاتصالات تخضع لتشديد كبير. وفي فندق الرشيد، حيث كان يقيم معظم الأجانب، كانت العاهرات تتصلن بي في منتصف الليل من صالة الفندق. كان ذلك أمرا محبطا، ففي معية مرافق، كاد يكون من المستحيل النفاذ إلى المجتمع

العراقي، والعراقيون الذين كان مسموحا لي بلقائهم، حتى أولئك الذين كان يتم اختيارهم عشوائيا، في مقهى، مثلا، أو في سوق الكتب الأسبوعي في شارع الرشيد، كانوا يفهمون أن من المتوقع منهم أن يقوموا بدور الصداميين المخلصين. بعضهم كان جيدا في القيام بذلك الدور، ومن خلال أدائهم، طورت لنفسي بالتدريج غريزة لهذا النوع من الترتيبات النفسية التي يطورها الناس لأنفسهم بهدف النجاة من ديكتاتورية عنيفة.

غير أن سمة أصيلة بدت لي في العراقيين، وهي عززت نفسها بنوع من التحدي: الوطنية العلمانية. فبعد مقابلة بعد أخرى، كان هؤلاء يعبرون عن شعور بالكبرياء بمجتمعهم الحديث المتقدم، على الرغم من كل تجاوزات صدام والحصار الأميركي. “نحن عراقيون أولا”، كانوا يقولون، القبيلة، الدين والطائفة كانت عناصر ثانوية. لكن هذا تغير على ما يبدو مع إزاحة صدام حسين في العام 2003 ، ونهوض الحركة الشيعية، فسرعان ما عمد مقتدى الصدر، المجلس الأعلى للثورة الإسلامية )الآن، المجلس الإسلامي الأعلى للعراق( وحزب الدعوة، إلى تعبئة أتباعهما، ومع نتائج انتخابات العام 2005 ، بدا العراقيون وكأنهم في طريقهم إلى جمهورية إسلامية، فقد كان السؤال الوحيد هو عما إذا كانت طهران أم المتطرفون من أتباع الصدر هو الطرف الذي سيحكم. ولو عدنا إلى الوراء، لبدا لنا أن العراق العلماني الذي شاهدته قبل الحرب لم يكن سوى واجهة أخفت وراءها أمة طائفية كانت تزدهر في السر، بعيدا عن طغيان صدام حسين. لكن الأشياء قد تغيرت، فالاحتلال الأميركي للعراق، ومقتل أكثر من عشرة عراقيين على أيدي قوات الأمن التابعة لشركة بلاكووتر، وقانون مقترح للنفط تدعمه واشنطن اعتبر بوابة لشركات النفط الأجنبية الفاسدة، أذكى انبعاثا لوطنية عراقية متجددة. وفي الوقت نفسه، ولدى فشل الأحزاب الحاكمة في وقف الانحدار الاقتصادي للبلاد وإصلاح بنيتها التحتية المدمرة، فإنهم فقدوا من رصيدهم الكثير، وكذلك الإسلاموية بوصفها ملهما للحاكمية.

وقد رد نوري المالكي زعيم حزب الدعوة الذي عين رئيسا للوزراء في شهر نيسان/أبريل عام 2006 ، لأن المرشحين الآخرين كانوا فاسدين

أو قريبين جدا من إيران أو كليهما، بأن نأى بنفسه عن الأحزاب الدينية ودخل في تحالفات مع جماعات علمانية ومجالس قبلية معتدلة. كان تلك المشاركات، وليس حزب الدعوة، هو ما ساعده على الهيمنة على انتخابات 31 كانون الثاني / يناير من هذا العام، والتي لم يتغلب فيها المرشحون العلمانيون الوطنيون على منافسيهم المتدينين والانفصاليين الأكراد إلا في أربع من أصل 18 محافظة. ومن العدل القول إنه كان صعبا تخيل الكيفية التي يمكن بها لأي مجموعة سياسية أن تحكم العراق بكفاءة في ظل العنف والاحتلال، وفي وقت قد يتحول فيه الجيل الجديد من القادة إلى ما كان عليه أسلافهم من فساد. وفي كلتا الحالتين، فإن النجاح المؤقت الذي حققته الحاكمية الإسلامية في العراق، يكشف عن الضعف المتأصل في الإسلاموية عموما. وقد تكون الجماعات الإسلامية التقليدية قادرة على إدارة مطابخ أو مدارس أو مراكز صحية، وبخاصة في ظل فراغ لأي بدائل علمانية، ولكن الثقافة الإدارية التي تجور على المرأة التي تشكل نصف قوة العمل، وتحبط التفكير الإبداعي والتمرد البناء رهن بالفشل. )ما عليك إلا أن تسأل اليابانيين(. إن انبعاث الوطنية العراقية برهان على أن كثيرا من بلدان الشرق الأوسط العربية ما زالت علمانية غريزيا ولكن

في اتساق مع التدين المتنامي.

في القاهرة وفلسطين وعمان ودمشق إما أن الجماعات الإسلامية منعت من المشاركة في انتخابات حرة، أو كما في حالة حماس، حرمت من الاعتراف الدولي وفرض عليها حصار بعد فوزها في انتخابات حرة ونزيهة، وهذا رد تكتيكي على مشكلة استراتيجية لم تثمر حتى الآن سوى العنف، وبرده على فوز حماس في انتخابات كانون الثاني / يناير 2007 ، بمحاصرة الأراضي الفلسطينية، فإن الغرب قد ضمن إلى حد كبير نجاة الجماعة واستمرارها. ولو أن حماس أعطيت فرصة الحكم في دولة متكاملة، ولو أنها رفضت الاعتدال، لفشلت مثلما فشل نظراؤها في العراق.

بالنسبة لكثير من الجماعات التي قد تحكم فلسطين وشعبها، والذي يتوق في معظمه إلى السلام والحرية وممارسة حياته التجارية، لن يكون هناك نجاح من دون علاقات دبلوماسية طبيعية مع إسرائيل. فمن خلال التفاوض مع فتح حول حكومة وحدة وطنية تمكن محمود عباس، زعيم فتح، من التفاوض مع إسرائيل، مثلما فعل قبل عامين في إطار اتفاق مكة، وهو ما أشار قادة حماس إلى أنهم يفهمونه.

كثير من القادة الأوروبيين يرون في تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية فرصة تستحق الاهتبال. فهل يفعل ذلك الرئيس الأميركي باراك أوباما؟ من المحزن أنه حين يأتي الأمر إلى العلاقات الأميركية الإسرائيلية، فإن الشرق الأوسط يصبح مكانا يموت فيه “التغيير.

الشرق الأوسط: مكان يموت فيه "التغيير"
 
05-Mar-2009
 
العدد 66