العدد 66 - الملف
 

السجل - خاص

هل ما زالت الموازنة العامة التي عرضت على مجلس الأمة يوم 26 / 10 / 2008 ذات علاقة بالتطورات الاقتصادية التي شهدتها المملكة الأردنية الهاشمية في الأيام المائة والثلاثين الماضية، ومع ما هو متوقع حدوثه في الأيام الباقية حتى نهاية هذا العام؟ أم أن كل يوم مضى منذ طرح الموازنة “بيمر بألف من الأيام العادية”؟ وإذا كان هنالك تغيير كبير، فما هي معالمه وآثاره ونتائجه على شكل الموازنة وتردّدها؟. يحدد الاقتصاديون ثلاثة أدوار للموازنة العامة: الأول هو الإنفاق على القطاعات المختلفة ودفع التزامات الحكومة، والدور الثاني تنموي تسعى الموازنة فيه إلى الإنفاق الأكبر لدفع عجلة النمو، أما الدور الثالث فهو دور توزيعي يأخذ من الأكثر قدرة لينفق على من هم أقل حظا أو ليرفع من مداخليهم ويعزز كرامتهم الإنسانية.

وحتى تستطيع الموازنة أداء هذه الأدوار الأساسية، لا بد لها من أن تعكس المواقع، وبخاصة عند الحديث عن الواردات. والواردات المحلية من ضرائب ورسوم وغرامات وأرباح وغيرها، من المتوقع لها أن تغطي ما يساوي 91 في المئة من مجموع الإنفاق المقدر بنحو 5,2 بليون دينار تقريبا، أي نحو 4,5 بليون دينار. ولو قارنا هذا بالدخل القومي المتوقع أن يصل حوالي 13 بليون دينار )الدخل وليس الناتج المحلي الإجمالي(، فهذا يعني أن الأردنيين سيدفعون للحكومة نسبة تزيد على ثلث المداخيل التي يحصلون عليها، ولعل في هذا الآن بعض التفاؤل.

فمن ناحية، سوف تتراجع عوائد رسوم بيع وشراء العقار بشكل واضح، وإذا بقي الحال على ما هو عليه، فربما تنخفض بنسبة تصل 50 في المئة من مجموع ما حصل العام الماضي. كما أن ضريبتي المبيعات والجمارك سوف تتراجعان بفعل تناقص الاستيراد، وبخاصة إذا تذكرنا أن هناك مخزونا كبيرا من السلع المستدامة وغيرها مما لم يبع العام الماضي، وكذلك فإن الاقتصاد في النفقات لدى الأسر الأردنية سوف يقلل من عوائد ضريبة المبيعات، وقد يتراجع هذان البندان بنسبة ربما تراوح بين 10 و 15 في المئة. ولا شك أن عوائد ضريبة الأرباح سوف تتراجع، ولكن بنسبة قليلة، إذ إن بعض الضرائب على أرباح الشركات لهذا العام سوف تجبى عن أرباح العام الماضي، أما بالنسبة للرسوم فإن عوائدها سوف تتراجع بنسبة لن تقل عن 10 في المئة. وإذا صحت مثل هذه التوقعات بالفعل، فإن مجموع دخل الحكومة لن يزيد على 4 بلايين دينار.

في المقابل، فإن الحكومة ستكون محدودة القدرة على تقليص النفقات الجارية إلا بقدر قد يصل إلى 5 في المئة في أحسن الأحوال. وكذلك الحال بالنسبة للنفقات الرأسمالية، ولو استطاعت الحكومة أن تنجح في تقليص الإنفاق بمقدار 7 في المئة، فإن التراجع في النفقات سيصل إلى حوالي 350 مليون دينار. وهذا يعني أن عجز الموازنة، في أحسن الأحوال، سوف يرتفع بمقدار 180 مليون دينار فقط، أي نحو 1,4 في المئة من

الناتج المحلي الإجمالي، وبهذا تصبح نسبة العجز قبل المساعدات حوالي 10,5 في المئة، وبعد المساعدات حوالي 6 في المئة، وكلاهما ليس بالأمر الخطر، ولكنه قطعاً يعكس حالة لا بد من التعامل معها، بخاصة أن نسبة 6 في المئة كعجز بعد المساعدات، تساوي تماما ضعف النسبة التي يصر صندوق النقد الدولي على أنها النسبة المعقولة للعجز في الدول النامية.

ولكن القضية لا تنتهي عند هذا الحد من التحليل، بل تتعداها إلى السؤال الأكبر وهو أن الموازنة بنت كل توقعاتها على أساس توقع رئيسي يرى أن الاقتصاد الأردني سوف يحقق نسبه نمو مقدارها 5 في المئة خلال العام الجاري. وقد يكون هذا أمرا غير ممكن في ضوء الواقع الذي لمسناه خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة . فهنالك تأثر بواقع الحال السيئ في الاقتصاد العالمي يشير إلى أن صادرات الأردن السلعة الرئيسية كالأسمدة والملابس سوف تتراجع سعرا وكما. وكذلك فإن حوالات الأردنيين العاملين في الخارج مرشحة للتراجع بمقدار 10 في المئة. وهنالك هبوط واضح في الطلب على العقار ربما يعوض جزئيا هذا الصيف إذا عاد كثير من العاملين الأردنيين في الخارج بعد انتهاء مدارس أبنائهم . وكذلك فإن الأرقام السياحية من أوروبا وأميركا، وحتى من الوطن العربي، لا تعطي تفاؤلا بأن الأمور ستبقى حول حجمها الذي حققته العام الماضي. وإذا صحت كل هذه التوقعات وغيرها وتراجعت أرباح الشركات والمصارف والمصانع، فمن أين سيتحقق النمو المتوقع؟ وإذا تراجع النمو إلى 3 في المئة، فإن العجز في الموازنة سوف يكبر بسبب تراجع الإيرادات الحكومية، وبسبب زيادة الطلب على الإنفاق، وكذلك فإن نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي الأصغر سوف تفوق نسبة إلى 6 في المئة أو نسبه إلى 4,6 في المئة المقدرة في الموازنة العامة.

في ضوء هذا الواقع، فإن صانع القرار الاقتصادي يجد نفسه أمام واحد من الاحتمالات التالية، الأول: الارتماء في أحضان التفاؤل، والتوقع بأن الأمور سوف تتحسن في النصف الثاني من هذا العام بفعل عوامل كثيرة قد تكون سياسيه أو ديموغرافية أو حتى اقتصاديه مالية، ويمكن لهذا السيناريو، بغض النظر عن مقدار ما يحيط به من أسرار، أن يكون ضربا من الوهم . الاحتمال الثاني: هو ترك الأمور على حالها بأدنى درجة من التدخل الحكومي، والقبول بالنتائج على أساس أنه لن يكون في الإمكان أحسن من ذلك. وهذا أيضا يعكس حالة من الشلل التي تفقد الثقة بقرارات القطاع العام . أما البديل الثالث فهو التصدي للأزمة بإعادة النظر في كل أرقام الموازنة وفرضياتها، ووضع خطط بديله لمنع حدوث أي مفاجآت وضمان سلامة الهبوط على مدرج الأحداث، أو حتى العمل على تحقيق الأرقام والمؤشرات الاقتصادية المفترضة في الموازنة، وهذا في تقديري هو العمل الأفضل والأشجع والأصعب. ولإنجاز هذا الأمر،فلا بد من أن يعمل المطبخ الاقتصادي العام فورا على وضع موازنة تعكس واقع الحال بشكل أكثر منطقية، وبخاصة في ضوء المعلومات والتجارب التي تحصلت لنا خلال الأشهر الماضية منذ طرح الموازنة العامة على مجلس الأمة.

وتشكل هذه الأرقام والجداول الواقع الذي انطلقت منه، ثم أقول إن الموازنة لهذا العام لها وظيفة دفع عجلة الاقتصاد وتحريكه، من هنا تتحدد الأولويات التي يجب على الحكومة أن تعطيها أقصى اهتمامها لتحريكها، فهو كالقاطرة الرئيسة التي تجر كل عربات الاقتصاد متى ما تحركت واندفعت قدما. ولعل قطاعات العقار والزراعة والسياحة والبنية التحتية هي التي يجب أن تمنح هذا الاهتمام بشكل خاص.

أما مقدار التمويل الذي يجب أن أوفره لها، فهو القبول مسبقا بعجز موازنة هذا العام بعد المساعدات يساوي 6 في المئة، ولكنني لا أريده أن يكون عجزا مفروضا علينا بفعل الأحداث ونمطها، بل بفعل خطة وضعتها لتحريك الاقتصاد، حيث أوجه الأموال نحو القطاعات التي أرجو منها الأثر الأكبر على بقية القطاعات متى تحركت. أما التمويل المطلوب، فإن علي أن أفترض أن حجم القروض التي ستقدم للقطاع الخاص سيبقى محدودا لمدة خمسة أشهر من الآن، والمطلوب مني هو سحب تلك السيولة من البرك والمصائد الراكدة فيها، ومن ثم توجيهها إلى حيث تريد الحكومة، وبفعل الضمانات والمغريات التي تقدمها لأصحابها. ومن المعروف الآن أن العلاقة الأفقية بين مؤسسات القطاع الخاص لا تسير على ما يرام ويشوبها الحذر الشديد والتردد، ولذلك فالمطلوب هو ضخ السيولة عموديا من الحكومة لتعيد إيقافها بشكل يحرك العلاقات الأفقية ويدعمها.

وبهذا القرار تضمن كذلك أن تسير كل من السياسة المالية والسياسة النقدية في اتجاه واحد مؤيد لبعضه. أما ما نراه الآن فهو أن السياسة المالية تميل نحو التوسع أينما يفرض السياسات والممارسات النقدية واقعا انكماشيا. سمعنا عن خطط حكومية، ولكن المواطن لا يعرف عنها ويجهلها، وعلى الحكومة أن تنطلق في إجراءاتها، ليس من حالة الإنكار، بل من واقع الاعتراف بأن الأمور لا تسير كما نشتهي، وأنها قد تسوء في المستقبل إذا لم نتحرك ونعمل شيئا سريعا فعالا ومؤثراً.

موازنة الدولة: اختبار سنوي للاقتصاد المحلي
 
05-Mar-2009
 
العدد 66