العدد 66 - أردني
 

محمود الريماوي

تشهد البلاد جملة من التحديات الداخلية، يكاد الجميع من رسميين وغير رسميين، يتفقون على محدداتها، فيما يبرز الخلاف حول سُبل معالجتها وعلى تنظيم الأولويات.

لتطويق الخلافات أو تثميرها بحيث تصبح مادة إثراء للحياة العامة، لا ميداناً للشقاق، برزت منذ بدء مرحلة التحول الديمقراطي قبل نحو عقدين توجهات على أعلى المستويات لإشراك مختلف الحساسيات السياسية والفكرية في صياغة رؤى وسياسات عامة، تنطوي على قدر من التفصيلات، كما كان شأن “الميثاق الوطني” و”الأجندة الوطنية”. على أن الحكومات ارتأت الأخذ بمخرجات هذه الوثائق بصورة انتقائية ومجزوءة، وطُرحت بعدئذ أفكار بأن مثل هذه الوثائق غير ملزمة، رغم أن أمر إصدارها قد وُشّح بإرادة ملكية، مما أثار فجوة بين الخطاب الحكومي وبين الشارع، وهي الفجوة التي أُحسن ردمها في مطلع تسعينات القرن الماضي، لكنها لم تلبث أن ظهرت من جديد.

أبعد من ذلك، فإن بعض التعهدات الواردة في البيانات الوزارية لا تجد دائماً طريقها إلى التنفيذ، حتى لو كانت هناك نوايا مسبقة بتنفيذها. أدى ذلك إلى تكريس الهوة، وإلى انصراف تدريجي للرأي العام عن الانشغال بالقضايا العامة، باستثناء الوضع الاقتصادي والمطالب الخدمية. حيث يصار إلى وضع حلول وخطط تسهم في حل جزء من المشكلات، إلا أن المشكلات الكلية تحرز القليل من التقدم على طريق حلّها، مثل العجز المالي الذي يواكب مسيرة الحكومات، ويزيد في معدلاته على عشرة في المئة من المدخول الوطني، وتجري تغطيته بالمساعدات الخارجية التي تخفضه إلى نحو 6 في المئة، وهي ضعْف النسبة التي يقدّرها صندوق النقد الدولي للاقتصادات الآمنة في الدول النامية، كما تلاحظ مقالةٌ مهمة منشورة في هذا العدد من “السجل”. فيما تتحدث مقالة أخرى ليست أقلّ أهمية، عن استبعاد إمكانية الاستغناء عن هذه المساعدات في الأفق المنظور.

ولعل متلازمة العجز المالي واستدراج المساعدات، تشكل البيئة التي تشيع منها مشاعر عدم الرضا عن المسار، رغم الرضا عن إنجازات تحققت في ميادين عدة. فليس هناك مشروع وطني لردم هوة العجز، والتحرر من المساعدات، والتغلب على مشكلة الديون الخارجية التي تتناقص لكن ببطء شديد، ويمكن أن يؤطر هذا المشروع حوله الرأي العام والنخب من سائر الاتجاهات، ويمنح دافعية ملموسة للعمل وبذل التضحيات عند الاقتضاء، خصوصاً من طرف الفئات الميسورة.

في الوقت نفسه، تثير الأزمة المالية العالمية مخاوف من انعكاس متزايد لها على المملكة، يتمثل في انكماش أرباح المؤسسات والشركات الكبيرة، وتقلص ضرائبها ورسومها، وتسريح جزء من كوادرها الوظيفية، وتجميد فرص التشغيل، وانخفاض تحويلات الأردنيين العاملين في الخارج، مع مخاوف من تسريح أعداد منهم، مع ما لذلك من آثار تعرقل فرص الحد من الفقر والبطالة.

مع ذلك، لا تجد الحكومة حرجاً في “تحسين” رواتب الوزراء ورفعها إلى الضعف تقريباً، في إطار سياسة عامة مرعية الإجراء ما انفكّت تفعل فعلها، وتقوم على الاستمالة والاسترضاء والمحاصصة المعلنة وغير المعلنة، والتي تفتح الشهية على المزيد من المطالب الفئوية والجهوية، بحيث يتحول الصالح العام إلى مجرد تعبير إنشائي غير قابل للترجمة في الواقع العياني. ويتكرس الولاء والاحتكام إلى مصالح ضيقة هي مشروعة في الإطار الوطني العام وكجزء من هذا الإطار، لكنها ليست كذلك حين تستقل بـ”ذاتها” وحين يكون الوفاء بها حصراً هو المصداق على سلامة الأداء وعلى سير المركبة سيراً حسناً.

أدى ذلك إلى تعزيز الهويات الفرعية والأولية، وهو ما لم تكن الحال عليه قبل نصف قرن وأكثر، وحين لم يكن التعليم منتشراً، وكانت وسائل الإعلام تقتصر على إذاعة وبضعة صحف. تكريس الهويات الفرعية يؤدي لتهتك النسيج الاجتماعي وللتنافس غير الصحي، ويضرّ بصورة الدولة كمرجعية ومظلّة وصاحبة ولاية عامة تتقدم على أيّ ولاءات أخرى.

ومن المفارقة أن الحكومات لا تأخذ هذا الأمر في الحسبان: فهي حين تعطي على قاعدة المحاصصة وعبر سياسة الاسترضاء والاستمالة (وجهها الآخر إقصاء وإغفال)، فإنها تثير حفيظة أطراف أخرى، والأهم أن الحكومات تسحب بذلك من رصيدها القانوني والمعنوي.

في هذه البيئة، ترتفع شعارات مثل مناوئة “الوطن البديل”، دون أن تؤدي الغرض المفترض منها، وهو مقاومة التوسع الإسرائيلي، والاعتصام بحق العودة للاجئين، بوصفها قضايا وطنية أردنية تمس مصالح الأردن العليا، كما المصالح والحقوق المباشرة لفئات عريضة من المواطنين. بدلاً من ذلك يجري زجّ هذا الشعار في دوامة المصالح الفئوية المتدافعة، لتنتهي مخرجاته، لا بالتشدد في مواجهة التوسعية الاسرائيلية، بل بوضع حقوق ومقتضيات المواطنة تحت المراجعة. وهو ما حمل قائد البلاد في لقائه الأخير (الاثنين 2 آذار/مارس الجاري) بشخصيات عامة، على الدعوة لطرح مثل هذه الشعارات جانباً.

مع أخذ ما تقدم في الحسبان، مقروناً بقانون انتخاب تفتيتي، وبتشكيل الحكومات على غير أسس سياسية تمثيلية، وبعيداً عن التشاور مع كتل الاحزاب والنقابات وممثلي المجتمع المدني، فإن ذلك يفضي في المحصلة إلى إفقار الحياة السياسية وتجويفها، ولا يعود هناك مواطن تختزن ذاكرته أسماء عشرة وزراء ومثل هذا العدد تقريباً من النواب، على ما لاحظ زميل كاتب (راكان المجالي في “الدستور”)، إضافة إلى أسماء الأحزاب ورموزها، كما دلت استطلاعات رأي متواترة، بما يمثل نزوحاً جماعياً عن الانشغال بالشأن العام، ويعكس انقطاعاً بين الرأي العام والمستوى السياسي التنفيذي والتشريعي. والخشية أن هناك من تروقه هذه الحال، على قاعدة أنه “كلما نأى الناس عن الخوض في السياسة والانشغال بها، خفّ وجع الرأس”. ويغيب عن هؤلاء أن حالة الفراغ السياسي يتم ملؤها باستهواء التطرف أو حمى الاستهلاك أو الجنوح الفردي، أو التوزع بين قطبَي التغريب من جهة، والإقامة في الهويات الأولى القبلية والمناطقية وسواها من جهة ثانية. ويتم بذلك كبح التطور العام، وحرمان الأجيال من المشاركة، والوقوع في العديد من المشكلات التي تستنزف الجهد التماساً لحلول لها، وتتأثر سلباً صورة الأردن في الخارج.

ولئن كان هذا الطرح لا يأتي بجديد، فكثيراً ما تم التركيز عليه سابقاً في أدبيات سياسية شتى، فإنه من الواضح أن تفعيل الحياة الديمقراطية لن يؤتي ثمره، دون إشاعة بيئة مدنية كنا نتمتع بمثلها قبل نصف قرن كما سبقت الإشارة، وليس المطلوب استيراد نماذج “غربية وغريبة”، بل وضع وثيقة تاريخية مثل “الأجندة الوطنية” موضع التطبيق، والدفع نحو دمج مكونات المجتمع رجالاً ونساء، والإعلاء من عمومية القوانين، ومن قيمة العمل وتجويد الإنتاج، ومن قيم المواطنة.

سوى ذلك، فإن الانتخابات، على سبيل المثال، سوف تسهم في المزيد من التفتت والشخصنة وحجب القضايا العامة عن الأنظار، وسوف تفرز المجالس النيابية حكومات تقترب من صورتها. ويبقى الجميع في الدوامة نفسها، حيث تسود الشكوى على الألسنة والأقلام في غياب مشروع وطني يستنهض الطاقات، ويحدد أهدافاً واقعية كتلك التي بلغتها مجتمعات ودول تشابهنا.

تحديات داخلية مقيمة ومستجدة الحاجة إلى مشروع وطني يفتح أفقاً للأجيال
 
05-Mar-2009
 
العدد 66