العدد 65 - كاتب / قارئ
 

منذ أن وعيت الحياة؛ كنت أرى أبي كبيراً عظيماً جليلاً مهاباً، وقادراً على فعل أي شيء، فلا أحد أقوى منه، ولا أحد أكبر منه، ولا أحد يمتلك شنبا كشنبه المفتول المبروم المعتنى به، وكنت أفاخر أقراني بأن أبي يستطيع التغلب على آبائهم، بل وعلى جميع الناس، حتى اليهود، ولو أراد أن ينتزع القدس وفلسطين منهم لفعل، ولكنه مشغول بأمور أهم.

كان أقراني أيضا يفاخرون بآبائهم، ويردون عليّ، بل يحقّرون قوة أبي وشجاعته، وكان الشجار بيننا يحتدم، وكنت، في كثير من الأحيان، أعود

باكياً شاكياً. كان أبي جنديا في القوات المسلحة، وكان يغيب في وحدته في أقصى الجنوب فتراتٍ طويلة، وعندما كان يأتي في إجازة حاملا حقيبته الخضراء منتفخة بالهدايا والفاكهة والحلوى؛ كنت أشعر أنني أمتلك الدنيا وما فيها، ولم يمر ولن يمر عليّ أجمل ولا أشهى من اللحظات التي كانت أمي توقظني فيها في وقت متأخر من الليل أنا وإخوتي قائلة برفق وهمس: «أجا أبوكم، قوموا .» فيندفع عندها الفرح إلى كل جزء من كياني، ثم

أرمي نفسي بين أحضانه بين ضحك وبكاء، وفي الصباح أنطلق إلى مدرستي فرحاً مسروراً أباهي زملائي بما أحضر لي، وإذّاك أشعر أنني الأقوى بينهم، فتجدني طفلاً شرساً أضرب هذا وأشتم ذاك، ولا أرى أن هناك من يمكنه أن يغلبني أو ما يمكن أن يخيفني، حتى إنني شتمت أحد المدرّسين مرة مستمدا قوتي من وجود أبي في البيت. أصعب اللحظات عندي حين يودعنا أبي مغادراً إلى وحدته، ولم أكن أستطيع النظر إليه؛ لأن

الدموع تكون مترقرقة في عيني أكاد أخفيها خلال محاولتي التماسك، وعندما يخرج، أذهب وأجلس تحت شجرة اللوز في حديقة المنزل حيث لا يراني أحد فأبكي بصوت عال ونشيج حار.

عندما أخرج إلى ساحة الحي، أجدني أضعف الأولاد، هادئاً خائراً صامتاً، وكثيراً ما كان الأولاد يضربونني، فأشرع في بكاء مر. بقيت هذه الحال تلازمني حتى وأنا كبير بالغ، فحينما يكون أبي في البيت أشعر بالقوة والشجاعة، وعندما يكون في وحدته أشعر بالخور وقلة الحيلة. ومع أنني حزنت حزناً كبيراً عندما توفيت والدتي رحمها الله؛ إلا أنني حمدت الله أن التي توفيت هي أمي وليس أبي.

مما يجدر ذكره، أنني حين كنت أتلقى تعليمي الجامعي في «بلغاريا »، كنت أتصل ببيتنا من حين لآخر، وحينما أجد أبي في البيت مجازا وأكلمه

ويكلمني؛ أعود حينها إلى حيث أسكن مع زملائي وأذهب إلى جامعتي ممتلئا قوة واطمئنانا، رغم أن البحار والجبال والوديان تفصلني عنه، ولم

يكن هذا الشعور يخامرني عندما كنت أهاتفه في وحدته.

مما أثار في نفسي السرور الدائم؛ تقاعد أبي من القوات المسلحة، فقد أصبح قريبا مني بشكل دائم، وكنت أعيش في اطمئنان في ظله، وحينما

تزوجتُ رفضت الانتقال إلى بيت آخر، بل سكنت وزوجتي في بيت الأهل لأبقى إلى جانبه، وكنت أرافقه إلى الكثير من المناسبات التي يذهب إليها، ولا أقوم من مجلس إلا حين يقوم، وكنت أشعر أنني آمن في ظله أنا وزوجتي وأولادي، وكان هذا الشعور يكبر معي، والغريب أن هذا الأمر لم يكن أبي يحس به ولا أقاربي ولا أصدقائي، فلم أكن أجرؤ أن أفصح عنه لأحد، فهو شعور داخلي لا داعي للإفصاح عنه، ولم يكن الأمر مدعاة للملاحظة، بل يبدو عاديا وطبيعيا.

لم يخطر ببالي أن والدي يمكن أن يموت. أما وقد وقع ما لا بد من وقوعه؛ فأنا أحس أنني أضعف الناس، وأجبن الناس، وأكثر الناس ذلا وانكسارا؛ فقد انهدم الجبل الذي كنت آوي إليه، وأستند إليه، وانطفأ القلب الذي كنت اهتدي بنوره، وجفّ النهر الذي كان يرويني. فحينما كان أحد أطفالي يأتيني باكيا مضروبا من ابن الجيران مثلا؛ كنت أقول له اذهب إلى جدك، وعندما كانت تواجهني أية مشكلة كبيرة أو صغيرة، كنت من فوري أذهب إليه لأسلمه الأمر وأنا واثق من قدرته على تبسيط أخطر الأمور وحلّها، وعندما كانت زوجتي تطلب مني إحضار شيء ما للبيت؛ كنت أحولها إليه.. أما الآن، أما وقد مات أبي، فإنني أحس بالهزيمة التي لا نصر بعدها.

أنور الوريدات

هزيمة لا نصر بعدها
 
26-Feb-2009
 
العدد 65