العدد 65 - بلا حدود | ||||||||||||||
"اعتصام الرابية" قبالة السفارة الإسرائيلية، خلال الحرب على غزة، وأبرز شعاراته طرد السفير الإسرائيلي من عمّان، مثّل ربما على الصعيد الأردني تجربة غير مسبوقة بتحوله إلى نموذج للمشاركة الشعبية المستقلة في التضامن مع الأهل في غزة، استنكار جرائم الاحتلال الإسرائيلي. الاعتصام الذي امتد على مدار أكثر من أسبوعين، قبل أن تقوم قوات الدرك بوضع نهاية له يوم "الجمعة الحزينة"، أمّته وفود مناصرة من إربد شمالاً إلى الكرك جنوباً. لتسليط الضوء على مسار الاعتصام وصُنّاعه، تحاور السّجل » ملهمة فكرة الاعتصام والخيمة، الفنانة ساندرا ماضي، وأحد أبرز النشطاء الذين حولوا الفكرة إلى أداء على الأرض، الطالب محمد المحسيري.
"السّجل": من أين بدأت فكرة الاعتصام؟ - ساندرا: في أول أيام العدوان على غزة، عندما رأيت منظر جثث الشهداء، كانت صدمتي كبيرة، فقررت التوقف عن مشاهدة التلفاز حتى أتجنب "عذاب" النفس الذي مارسناه جميعاً أمام الشاشة في مناسبات مؤلمة سابقة في فلسطين ولبنان والعراق. شاركت مثل غيري في مسيرات، كان ثالثها الاعتصام يوم 27 كانون الأول/ديسمبر أمام السفارة المصرية. مشهد الهتافات أثار لدي تساؤلات عن ثقافة التظاهر التي تأخذ طابعاً واحداً. فهل يعقل أن أقصى ما نمتلكه أمام حدث بمثل هذه القسوة، هو الصراخ والمسير داخل طوق مغلق خلال وقت محدد؟ فالتقيت بمجموعة من الشبان، واكتشفنا أن لدينا التساؤلات نفسها. - محمد: كنّا ثلاثة أصدقاء من الجامعة نفسها، وتعرفنا إلى ساندرا، وقررنا أن ننتقل إلى مقهى لمناقشة ماذا يمكننا فعله. من الأمور التي تحاورنا حولها، أن الاعتصام أمام السفارة المصرية ليس أولوية، بل يجب التركيز على قلب الحدث واستنكار عمل الصهاينة. تحدثنا عن مصاعب التظاهر أمام السفارة الإسرائيلية التي يتعذر على المواطن حتى مجرد المرور بالقرب منها. مع ذلك قررنا أن نحشد لمسيرة باتجاه السفارة، واتفقنا أن نذهب إلى أقرب نقطة ممكنة منها. ولما أثير تساؤل عما بعد، خرجت ساندرا بفكرة نَصْب خيمة عند تلك النقطة. "السّجل": كيف تطورت فكرة الخيمة في هذا التحرك؟ - ساندرا: تحركنا يوم 28 / 12 عصراً، باتجاه السفارة الإسرائيلية في وقت كانت تنطلق فيه مسيرة من جامع الكالوتي. ولما تم إيقاف المتظاهرين على مسافة 200 متر من تقاطع الاتصالات في الرابية، كانت خيمة تتسع لعشرة أشخاص جاهزة معنا، فنصبناها في المنطقة الترابية، وتجمع حولها حوالي مئة شخص من الطلبة والمشاركين المستقلين، ثم وزعنا بيانات مطبوعاً عليها مواد الدستور الخاصة بحقوق الأردنيين وواجباتهم )المواد 23-5 (، وأعلنا مبادرة اعتصام مفتوح مع مبيت. - محمد: ارتفع في الليلة نفسها عدد الخيم إلى أربع، ومكث فيها ما بين 30 الى 35 شخصاً . في اليوم الثالث للاعتصام، ارتفع عدد الخيم إلى ثماني خيمات، قسم منها صغيرة، وفرضت علينا حالة الطقس والطين التراجع عشرات الأمتار، وإعادة نصب الخيم في مساحة جافة، بعد أن ساعدنا شبان بفرش المكان بالحصمة. - ساندرا: بدأت الأعداد التي تؤم الاعتصام بالازدياد، وبخاصة من الأمهات والأطفال والفتيات، لذا كان لا بد من حماية الناس من المطر والبرد. هنا تم طرح فكرة إقامة خيمة كبيرة، فذهبت برفقة سيدة من الناشطات للقاء محافظ العاصمة، ووضعه بصورة ما يجري، فوافق على إقامة الخيمة الرئيسية التي كانت تحتضن الأنشطة من عرض أفلام وإلقاء شعر وتعريف بشعارات التحرك. وقام فنانون شبان بتغطية الساحة المقابلة للخيمة بشواهد قبور وصلبان كتب على كل منها "غزاوي" ورقم كذا. "السّجل": كيف حافظتم على استقلالية هذا التحرك؟ - ساندرا: منذ أن بدأنا الاعتصام، كان هناك مشاركون من تيارات سياسية مختلفة.وقد التزم الجميع بشروط الاعتصام. فكل شخص موجود يمثل نفسه، ولا يمثل الجهة التي ينتمي إليها. ركزنا أيضاً على توحيد الهتافات قدر الإمكان، وعلى أن تكون حضارية، بحيث لا يتم توجيه شتائم إلى أي جهة، والابتعاد عما يثير الحساسية بين الأحزاب. شعاراتنا كانت واضحة، في مقدمتها وقف العدوان على غزة، طرد السفير الصهيوني، وإلغاء اتفاقية وادي عربة. اشترطنا أيضاً أن لا ترفع أي جهة أعلاماً خاصة بها، باستثناء الأعلام الأردنية والفلسطينية. - محمد: عندما كنا نروج للاعتصام في المسيرات، لاقينا تقبلاً للفكرة. لكن كانت هناك تحفظات من قوى سياسية، حتى إن بعض الشبان قالوا إنهم لن يشاركوا قبل الحصول على إذن من حزبهم. كل الترتيبات كانت مصاغة ضد التعصب والفئوية. التحرك كان يمثل الناس، إنه تحرك شعبي، ما جعل خيمة الاعتصام خيمة للوحدة. جاءت فتيات من إحدى الجامعات، ومعهن هتافات مكتوبة، قمنا بتوجيههن لتغيير الهتافات، وأصبحن يهتفن "وحدة، وحدة، وطنية" . "السّجل": كيف تقيمون المشاركة النسائية في الاعتصام؟ - ساندرا: الفئة الأساسية المشاركة من النساء، كنّ طالبات جامعات، وكان هناك نساء من مختلف الفئات الاجتماعية والأعمار، وكنّ يتواجدن حتى ساعة متأخرة، واتفقنا في اليوم الثالث على عدم السماح لأي سيدة أو فتاة بالمبيت في خيم الاعتصام. فقد كان هناك تشويش علينا خاصة في بعض المواقع الإلكترونية. لكن الناس كانت ترى أن الأجواء التي سادت في الاعتصام أجواء عائلية. دور الفتيات في الاعتصام كان أساسياً، وكن دائماً في الصف الأول. وفي الحقيقة، واجهنا في البداية، ميلاً من بعض الناشطين معنا نحو تقييد حرية الفتيات في الاعتصام، وعدم السماح لهن بالتواجد حتى ساعة متأخرة، وقد ذللنا هذه المشكلة، وساد الانسجام. - محمد: كانت أمهات يأتين مع بناتهن إلى الموقع، وكانت عائلات تأتي بكامل أفرادها. المكان كان جاذباً، وكنا نشعر بعلاقة الناس الحميمة معنا. كثير من ربات البيوت، كنّ يحضرن الفطور للمعتصمين وكن يسألن عما إذا أصاب الشبان جوع أو برد. سيدة قالت لي "أنا أحضرت بنتي إلى هنا حتى تتعلم إنه إحنا ورانا قضية". كذلك كانت هناك مشاركة عالية لسيدات وصبايا من الجامعات في الهتاف. "السّجل": ماذا أضافت إليكم تجربة الاعتصام؟ - محمد: أشعر أن هذه التجربة زادتني ثقة بنفسي. ودفعتني للاعتناء بتثقيف ذاتي، فأصبحت أقرأ كثيراً. الاعتصام نقلني إلى عالم جديد، فلدي إحساس قوي بأنني خضت تجربة إنسانية غنية تعرفت فيها على أشخاص جدد وأشياء جديدة. حتى في البيت، أصبح سلوكي تحكمه ثقة ومسؤولية أكبر. وبما يخص المجموعة الأساسية التي تحملت مسؤولية إدارة الاعتصام، فنحن نتواصل، لكن مشاغل الحياة تعيدنا إلى حياتنا العملية. - ساندرا: شعرت بإمكانياتي وطاقتي كإنسانة يمكن أن تقوم بعمل مؤثر في المجتمع، وتتواصل مع الفئات كافة. في الوسط الفني هناك عادة مظاهر من التعالي. في الاعتصام على العكس، اكتشفت أن أرقى الحالات الإنسانية يمكن أن تتولد في جو من العمل الجماعي. أكثر من ذلك، اكتشفت أن الاعتصام أعادنا إلى إنسانيتنا، فأصبحنا نسأل عن بعضنا بعضاً. اكتشفت أيضاً أننا في الواقع العملي لا نعرف العمل الجماعي على حقيقته، فكان الاعتصام اختباراً لنا ومدرسة تعلمنا فيها ومنها الكثير. أحيي كل المساهمين في صناعة هذا الحدث. "السّجل": كيف وفّقت يا محمد وقتك بين الدراسة والتحرك من أجل غزة؟ - محمد: في البداية، حجم المأساة كان يمنع الإنسان من التركيز على الدراسة. لكن عندما بدأ الاعتصام، قمنا بعمل مناوبات. وخلال الدوام في الجامعة، كنت أقوم بجهد كبير لأنجز واجباتي. وفي أجواء الاعتصام، كان هناك تشجيع لنا على الالتزام بالدوام والدراسة. فساندرا تسألني "داومت اليوم يا محمد؟"، وصديقي أحمد الجوابرة يسألني "درست كويس يا محمد؟". "السّجل": من أين استمديتم هذه الخبرة والانفتاح؟ - ساندرا: أنا تربيت تربية منفتحة، وليس للممنوعات حضور قوي في حياتي. والدتي كانت مدرّسة تربية رياضية، ولها حضور في العمل العام. فلديها موهبة نظم الشعر المحكي، ولها ميول ثقافية وفنية، ورصيد واسع من المشاركة في الاعتصامات. ويبقى، كما يقال، إن الحياة مدرسة. - محمد: تربيت في عائلة انخرطت في العمل النضالي منذ الصغر. وللمرحوم والدي تأثير عليّ. في الجامعة كنت أدعم مجموعات لم تعمل على حل مشاكلنا المتعلقة بالمواصلات وغيره، فأسهمت في بلورة كتلة "كلنا عرب" التي شارك فيها طلبة من أقطار عربية، وفازت بأغلبية مقاعد المجلس الطلابي. |
|
|||||||||||||