العدد 64 - أعلام | ||||||||||||||
فيصل دراج يمثّل الفلسطيني المقدسي روحي الخالدي ) 1864 - 1913 ( صورة للمثقف الحداثي العثماني، الذي جمع بين ثقافة عربية مشبعة بالتراث، وثقافة تركية جاءته من عمله الإداري، وثقافة فرنسية حصل عليها من خلال الدراسة والعمل الدبلوماسي. فقد درس في فلسطين وتركيا، وانتهى إلى جامعة السوربون، ودرس فيها الآداب الشرقية، وعُيّن مدرساً في جمعية اللغات الأجنبية في باريس، وبنى علاقات مثمرة مع عدد من المستشرقين. أتاحت له ثقافته الفرنسية أن يصبح قنصلاً عاماً للدولة العثمانية العام 1898 في مدينة بوردو الفرنسية، ولم يرجع منها إلاّ عقب إعلان الدستور العام 1908 ، حيث انتُخب نائباً عن القدس في مجلس النواب العثماني )المبعوثان(، وأعيد انتخابه ثلاث مرات، أعطى خلالها مكاناً واسعاً للدفاع عن القضية الفلسطينية. تكمن أهمية الخالدي، كمفكّر تنويري رائد، في كتابين مهمين، أشهرهما «تاريخ علم الأدب عن الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو »، الذي جعل منه الرائد الأول في الأدب المقارن، بينما لم يحظَ كتابه الثاني «السيونزم أو المسألة الصهيونية » إ لاّ باهتمام موسمي. ومع أن عمله الأول اختُصر، لدى بعضهم، إلى كتاب أدبي، فإن مضمونه الفعلي يتجاوز ذلك كثيراً، لأن ما هو أدبي فيه كان قناعاً لقول سياسي تحرري يشرح، بشكل «ماكر »، أفكار الثورة الفرنسية. ولعل البعد السياسي هو الذي أجبر الخالدي على حجب اسمه، حين طبع كتابه للمرة الأولى العام 1904 ، وأن يكتفي بلقب «المقدسي »، نسبة إلى مدينته، وأن لا يسفر عن اسمه الصريح إلا في طبعته الثانية العام 1912 . وضع الخالدي في كتابه «تاريخ علم الأدب » خطابين غير متكافئين، أحدهما يقارن بين الأدب العربي القديم والأدب الفرنسي الحديث، وثانيهما يتناول قضايا الحرية والاستبداد وأثرهما في مصير الشعوب. فهو عندما يأتي سريعاً على ذكر الحرية في فرنسا يقول : «وما أدراك ما الحرية الفرنساوية، هي الحرية التي أنقذت أمماً كثيرة من الظلم والاستبداد »، وحين يتطرّق، في سطور قليلة، إلى العلاقة بين اللغة والحرية يؤكد «وجود نسبة تامة بين الحرية وبين ارتقاء لسان العرب، فكلما اتسع نطاق الحرية في الدولة اتسع معه نطاق الأدب ». بل إنه يشرح أسباب سقوط «الأندلسيين » وتداعي حضارتهم بالظلم: «ولكن عاجلهم الانقراض وفاجأهم الاستبداد فأمحلت عقولهم وسدت قرائحهم.... ».. دافع الخالدي عن «الحرية الفرنسية » محيلاً، كما فعل الكواكبي، على الإسلام وتعاليمه: «لو قرأنا القرآن وفهمناه كما ينبغي لوجدنا فيه مقاومة شديدة للظلم والاستبداد، وميلاً زائداً إلى الحرية... .» تعامل المثقف المقدسي مع مبادئ الثورة الفرنسية بشكل غير مدرسي، ذلك أنه رأى فيها منطلقاً لتأمل معنى الإبداع والتجديد الأدبي. فعلى خلاف النثر الحديث، الذي يقرأ مواضيع الحياة اليومية، فإن الاستبداد يحرّض على الشكلانية اللغوية والبلاغة الفارغة، كذلك حال الجديد الأدبي الذي تقترحه القرائح الحرة، بعيداً عن عقول موروثة مشدودة إلى «المقامة » وأشعار القدماء. لم يشأ في دراسته عن الشاعر الفرنسي «فيكتور هوكو » أن يمجد شاعراً مبدعاً، بقدر ما أراد أن ينقد من خلال شعره حياة عربية مستبدة، تعتاش على استظهار القديم. هجس الخالدي بـ التثاقف »، أو بما يدعى اليوم «حوار الثقافات ،» وقاده عقله الحديث، الذي تفاعلت فيه ثقافات مختلفة، إلى قاعدة ذهبية تقول: لا معنى لحضارة إلا بمقارنتها بحضارة أخرى، متقدمة عليها أو متخلّفة عنها، ولا معنى لثقافة إلاّ مقابل ثقافة مغايرة. والواضح في تصوره أن على المتخلف أن يحاكي الطرف المتقدّم عليه، وأن الحضارة الإنسانية موحدة متفاعلة، مؤكداً أكثر من مرة أن «الاختلاط بين العرب والإفرنج لم ينقطع ». ولهذا يقول: «ففي أوائل القرن الثاني للهجرة والثامن للميلاد أخذت الأفكار تتبادل بين المسلمين وبين أمم أوروبا من الإسبانيين والطليان والإفرنج ودامت الصلات لا تنقطع بين المسلمين وبين أمم أوروبا »، كما يقول : « تعلم الإفرنج من العرب القوافي ورقة الغزل وأدب النظم وتلحين الأغاني والشعر،.....، بعد أن اطلع الإفرنج في كتب الإسلام على ما عند اليونان... .» أراد من عودته إلى التاريخ البعيد تبرير دعوته إلى ضرورة اقتباس الإبداع الغربي والتعلّم منه، مؤكداً «أن الأدب من أرقى الفنون »، و «أن الحرية من حقوق البشر جميعاً »، و «أن فن التمثيل كما لا يخفى هو من أكبر العوامل على ترقي فنون الأدب وإصلاح طرق النظم والنثر... ». يظهر احتفاله بوحدة الثقافة الإنسانية في جمله المتواترة عن «انتشار العلم وتوسع الحضارة »، التي تعني أن على العرب المسلمين أن يقبلوا على العلم وأن يسهموا في بناء الحضارة. واجه الخالدي السلطة الرسمية، كما العقول المتحجرة خارجها، باستشهاد متواتر بفضائل العرب الأقدمين، كما لو كانت منجزات الثورة الفرنسية تأتلف مع روح الإسلام والقيم العربية الأصلية : «وكان الخلفاء والرؤساء يكرّمون شعراء الطبقة الإٍسلامية كما يفعل في يومنا الإفرنج »، و«الإفرنج يغدقون كل أنواع التكريم على العلماء كما كان يفعل العرب »، و «كان للخلفاء معرفة بفنون الأدب كما يفعل ملوك الإفرنج في زماننا ». يفصح هذا التصور عن سياسة ثقافية تجعل من محاكاة الغرب «فضيلة إسلامية »، بقدر ما يذكر بفضائل ثقافية قديمة أهدرها السياق المستبد : «تُرجمت كتب العلم والحكمة إلى لسان العرب، وظهر لها تأثير في توسيع أفكار الشعر الإسلاميين... » وبما أن الأمر كذلك، ترجم الخالدي فيكتور هوكو، موحياً بأن على الشاعر العربي أن يقرأ الشعر الفرنسي، وأن يتعلم أفكار «الانقلاب الكبير » - أي الثورة الفرنسية - «الذي ثلّ عرش الاستبداد، وحرّر العقول، وبدل الظلام بالثورة، ووضع العدل في موضع الظلم... .» يفسّر اندفاع روحي الخالدي إلى أفكار الثورة الفرنسية بالمناخ العثماني المستبد. يظهر هذا جلياً في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه التي جاء فيها : «وقد نال الاستبداد من نفوس العثمانيين، وقيد أقلام أحرارهم، فلم نعد نسمع غير أصوات المتزلفين أو المتملقين. وإذا تكلم الحر تكلم همساً، وإذا كتب أخفى اسمه... ». لا غرابة أن يكون الخالدي كارهاً للسلطان عبد الحميد، وأن يتهمه بالتعامل مع المنظمات الصهيونية وإنعامه على هرتسل ب «النيشان المجيدي الأول »، وأن يكشف عن استعداده لبيع فلسطين، إذا كان الثمن ملائماً. كشف كتاب الخالدي «السيونزم أو المسألة الصهيونية » عن تصور علمي للعالم، لا علاقة له بالبلاغة الفارغة وثقافة الأدعية. قاده منهجه إلى رصد تاريخي لصعود الصهيونية، وإلى وصف قادتها بجدية حقيقية، كأن يكتب«واستعمل هرتسل جميع بلاغته وفصاحته، وهو الرجل السياسي المحنك الذي حرّر أعظم الجرائد السياسية المعروفة في أوروبا »، وعمل على إقناع رجال السلطة العثمانية «وهم على ما نعهدهم من البساطة والجهل وحب الثروة والغنى »، فإن وصل إلى «القوى اليهودية » قال: «وفي أيديهم ثلث ثروة العالم مع قلة عددهم »، دون أن ينسى أن يذكر خصال وصفات زعمائهم بحياد يخالطه الاحترام. بيد أن الحس النقدي المأساوي عند الخالدي يصل إلى ذروته وهو يعقد مقارنة مهووسة بالأرقام، بين الوضع الاستيطاني اليهودي والخراب العربي الذي يصل إلى البوار، كأن يكتب: «أما المستعمرات التي أسسها في فلسطين اليهود المهاجرون من روسيا وأوروباالشرقية فعددها في هذه السنين الأخيرة ثمان وعشرون مستعمرة، ومساحتها 279.491 دونماً، وفيها من اليهود والمستعمرات 8000 نفس، ويهاجر إليها في السنة نحو ألفين مع عدم تصريح الدولة. وصف الخالدي، حوالي العام 1910 ، عشرين مستعمرة يهودية، وصفاً دقيقاً نموذجياً يتضمن المساحة وعدد السكان ونفقات المزروعات والأرباح النهائية، مروراً بالمدارس وصناديق الاقتصاد والإقراض والمراكز الطبية وعدد الحيوانات والطيور وأشكال الحياة السياسية، كما لو كان يضع «موسوعة » عن النشاط الصهيوني في فلسطين في جميع وجوهه. أما ما يكمل الصورة، ويعطيها بعدها الأكثر مأساوية، فيتمثّل في وصف الخالدي للأعراف والاهتمامات الفلسطينية، التي تنوس بين الفقر والجهل والبطر السفيه وتبديد الذاكرة. وظّف الخالدي ثقافته الواسعة في الدعوة إلى الاستنارة وتجديد المجتمع، ووظف منظوره الحديث في قراءة الواقع الفلسطيني السائر إلى الغرق، مؤكداً حقيقة أساسية تقول : لم ينتصر اليهود على المسلمين، ولم يغلب الصهاينة العرب، فما انتصر في فلسطين هو «الحداثة الصهيونية »، وما انهزم هو التخلف وثقافة الأدعية والوعي الزائف. قرأ الخالدي منهجيّ أوغست كونت وإميل دوركايم، وهما عالمان اجتماعيان فرنسيان، وطبّق ما تعلمه على الواقع الفلسطيني السائر إلى الغرق، ورحل مودّعاً بتشاؤمه. |
|
|||||||||||||