العدد 64 - الملف | ||||||||||||||
دلال سلامة كان نهراً حقيقياً، تحفه الأشجار على الجانبين، والمنطقة الممتدة من قصر رغدان إلى عين غزال كانت منطقة بساتين وكروم تين وعنب ». هكذا يتذكر عدنان ) 68 عاما( سيل عمان في الأربعينيات، عندما كان يعمل في المستشفى الإيطالي آنذاك، ويضطر إلى قطع المسافة من شارع الملك طلال إلى المستشفى على جسر بدائي من الخشب. هكذا يتذكرها أيضا الروائي عبد الرحمن منيف، الذي ولد في عمان، فهو يشير إلى عمان في كتابه سيرة مدينة بوصفها مدينة يخترقها نهر ينبع من رأس العين؛ سيل عمان هو النهر الذي كتب عنه الراحل منيف. صلاح ) 62 عاما(، يتذكر السيل في أواسط الخمسينات، عندما كانت المياه تصل المبنى القديم لأمانة العاصمة، وهو مقر مكتبة أمانة العاصمة هذه الأيام، وتمر من تحت جسر كان يطلق عليه اسم جسر فرعون، نسبة إلى درج فرعون، وهو الاسم الذي كان يطلق على المدرج الروماني آنذاك، «هناك كان بعض الشباب يستخدمون أتربة وبعض الحجارة لصنع حاجز تتشكل خلفه ما يشبه البحيرة الصغيرة، حيث كان الأطفال يصطادون بعض السمكات الصغيرة التي كان بعضها يعلق في الماء المتجمع في البركة الصغيرة .» يتذكر صلاح أنه في الصيف كان كثير من الباعة يفترشون الأرض المحاذية للسيل، عارضين بضائعهم وغالبيتها ملابس مستعملة، كانت تأتي في معظمها من «بقج » الملابس التي كانت توزعها وكالة الغوث «الأونروا »، على اللاجئين الفلسطينيين بين حين وآخر، ولأنها لم تكن تناسب أصحابها في الغالب، كان هؤلاء يلجأون إلى بيعها. في الشتاء كثيراً ما كان السيل يفيض على الجانبين، ويصبح من الصعب على المواطنين أن يعبروه، فكان بعضهم يصنع ما يشبه جسراً من حجارة يتقافز العابرون عليها ليصلوا إلى الجهة الأخرى، وهذه الطريقة لم تكن سليمة دائماً، فقد يسقط أحدهم في الماء ويخرج مبللا. ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد كان بعض «العتالين » يعرضون على المواطنين حملهم على ظهورهم وعبور السيل بهم، لقاء قرشين، أو ما شابه ذلك. جمال ) 51 عاما( يعمل تاجر سجاد منذ ثلاثين سنة في سقف السيل، كان طفلا في أواخر الستينات، وهو يتذكر فيضان السيل في الشتاء، فيضطر الساكنون على ضفافه، وكان معظمهم في تلك الأيام من الشركس والشوام، ويسكنون في براكيات من «الزينكو »، إلى اللجوء إلى مناطق مرتفعة الجبال هربا من المياه. يقول جمال إن بعض العائلات كانت تخرج في أيام الربيع مع أبنائها، وتأخذ طعامها وتجلس تحت الأشجار التي كانت على جوانب السيل. ولكنه يقول إن الحال في الصيف كان يتغير، فقد كانت المياه تخفّ كثيرا، وتصبح مياها آسنة تنبعث منها رائحة نتنة. هذه هي ذكريات من أدركوا أيام سيل عمان قبل أن يسقف، وهو كان يمتد شرقا إلى مدينة الزرقاء، حيث يسمى هناك سيل الزرقاء، وكان أحد مصادر المياه في المدينة، إلى أن تم سقفه العام 1968 ، بسبب جفافه، ونضوب عيون المياه التي كانت تغذيه، مع مرور السنين وازدياد عدد السكان. ما كان نهرا، أو نهيرا، تحول إلى شارع إسفلتي يسمى شارع قريش، وإن كان الناس إلى الآن ما زالوا يصرون على الاحتفاظ باسمه القديم، شارع سقف السيل، أما ضفتاه اللتان كانتا تزدهران بالأشجار، وبخاصة ضفته الموازية لشارع الملك طلال، فقد تحولتا إلى شارعين طويلين متقابلين يزدحمان بالفنادق الشعبية، ومحلات الملابس الجديدة والمستعملة: الأجهزة الكهربائية، الأدوات المنزلية، الهواتف الخلوية، المواد الغذائية، وغيرها. ويرتبط اسم الشارع اليوم في صورة كبيرة بتجارة الملابس الأوروبية المستعملة، وفي منطقة يطلق عليها اسم الجورة، وهي ساحة كبيرة منخفضة عن سطح الشارع، وينزل إليها بواسطة درج، يأتي كثيرون لشراء قطع أثاث مستعمل. في يوم الجمعة يتحول الشارع إلى خلية نحل، فيرتاده الآلاف الذين يبدأون بالتوافد عليه منذ ساعات الصباح الباكر، حيث تكون عشرات البسطات قد انتشرت على جوانبه ممتلئة بالملابس والأحذية المستعملة، الأقراص المدمجة، الخلويات، العملات المعدنية والورقية، الإكسسوارات. الغريب في الأمر وجود بسطات لأنواع من البضائع لا تعرف إن كان هناك من سيشتريها أو يستفيد منها، مثل: مصفاة بلاستيكية مشقوقة، أو صينية ميلامين مكسورة الطرف، وزجاجات عطر مليئة بمياه ملونة، ومحافظ جلدية تالفة، وعلب شامبو فارغة. الناس الذين يبيعون مثل هذه الأشياء يرفضون الكلام عن مصدرها، ولكن زايد، أحد أصحاب المحلات في المنطقة، قال إن هؤلاء يأتون بها من حاويات القمامة. أكمل زايد، إنه يعرف شخصيا شابا في الثلاثينات من عمره مهنته النبش في الحاويات، حيث يلتقط بعض الأغراض ويستصلحها، ثم يأتي إلى السوق ليبيعها. المنطقة التي ظلت زمنا طويلا، وما زالت حتى الآن، تعتبر قاعا للمدينة، لا تخطئ العين فيها أشخاصا من الواضح أنهم ينتمون إلى طبقات مرتاحة، يتجولون يوم الجمعة بين البسطات. خالد ) 42 عاما( يقول إنه حريص على النزول إلى سقف السيل كل جمعة، لأنه على حد قوله يعثر على ما يسميه )لقطات(. خالداشترى قبل أشهر قلما ماركة باركر مطليا بالذهب بدينارين ونصف الدينار، ومرة اشترى قطعة كريستال أصلية بدينار، كما أنه يحصل دائما على قطع غيار جيدة لجهاز الكمبيوتر الخاص به وبأسعار جيدة، وهو يفسر هذه الأسعار البخسة، بأن هؤلاء يحصلون على بضاعتهم من القمامة، ولا يعرفون بالتالي قيمة ما يجدونه أحيانا. ولكن لفترة طويلة ظلت المنطقة مكانا لتصريف البضائع المسروقة بأثمان بخسة، وكان ذلك يتم في ما يسمى سوق الحرامية، الذي يقع أول شارع سقف السيل. وبقي لفترة كذلك، ولكن التشديدات الأمنية حدّت كثيرا من الظاهرة، وإن ظل المكان محتفظا باسمه القديم. سبيل الحوريات، واحد من أبرز معالم المنطقة. هذا الأثر الروماني بني أواخر القرن الثاني الميلادي، أو أوائل القرن الثالث الميلادي، وكان حماما فخما، تُزين جدرانه الداخلية ألواحٌ من الرخام، وفيه حمام سباحة يمتد على طول البناء، وبعمق 26 قدما. هذا الحمام تحول بمرور الزمن إلى خان ينزل فيه المسافرون. صلاح يقول إن السيل الذي كانت تغذيه مجموعة من الينابيع، كان منهما اثنتان تنبعان من موقع مقابل لسبيل الحوريات، وكانت إحدى متع أطفال ذلك الزمان، أن يغطسوا في اتجاه النبع الذي ما تلبث مياهه المتدفقة أن ترد السابحين الصغار إلى الخلف، ليعاودوا الكرة مرة بعد أخرى دون ملل. سيل عمان، كان في يوم من الأيام نهرا حقيقيا، لكن شيئا لا يدل على وجوده الآن سوى فتحات تصريف مياه الأمطار في الشارع، والتي تنبعث منها في الصيف روائح كريهة، تضطر أصحاب المحلات إلى تغطيتها بالكرتون وقطع قديمة من السجاد. |
|
|||||||||||||