العدد 64 - الملف
 

خالد أبو الخير

يا سامعين الصوت صلوا على النبي »بتلك العبارة يستهل الدلال الذي غاب عن شوارعنا مناداته على الناس، ويظل يرددها حتى يتجمع أكبر قدر من المواطنين، ثم يبدأ حديثه بقراءة الفاتحة، وينتقل إلى موضوع الدلالة كأن يقول: صدر حكم قضائي بحق فلان الفلاني، مكان سكناه مجهول، أو سيقام حفل غنائي كبير يحيه الفنان فلان الفلاني، أو إن شاء الله يكون في بيوتكم هيك. يعقد زواج فلان يوم الخميس من الأسبوع المقبل.التعليلة تبدأ يوم الثلاثاء وتدوم ثلاث ليال ..الخ.

الدلال مهنة محترمة احترفتها طائفة من الناس على مر الأزمان في المدن الكبيرة لتبليغ الأخبار والأحداث شفاهاً، وهو أمر لم يكن يحتاج إليه في القرى حيث يسهل تناقل الأخبار بين السكان قليلي العدد، وكانت المساجد تقوم بمثل هذا الدور في القرى والبلدات، حيث تعلن الوفيات في صورة خاصة بعد الأذان، وذلك بعد إدخال استخدام مكبرات الصوت.

عرفت مهنة الدلالة في العصرين الأموي والعباسي، وتوسعت في العهود الأيوبية والمملوكية، وبقيت حاضرة في الأردن حتى منتصف الستينيات.

قديماً، اقتصر عمل الدلال على إبلاغ الناس بالإحداث المهمة، الدعوة إلى الجهاد، أو تنفيذ حكم إعدام، او الاحتفاء بالمولد النبوي وتنصيب ملك أو خليفة. وكان الدلال يتقاضى راتبا رسميا نظير عمله من بيت مال المسلمين.

تطورت مهنة الدلالة التي مارسها كثر حتى لقبت أسر بكاملها بالدلال، وحتى اليوم ينتشر هذا الاسم بين عائلات في الأردن وفلسطين والعراق وسورية ومصر وغيرها. ولكن مع منتصف القرن العشرين بدأ دور الدلال ينحسر، وبخاصة مع دخول وسائل جديدة للاتصال، وتطور تقنيات جديدة لإيصال الأخبار والتبليغ، فكاد يقتصر دور الدلال على أمور مثل الإبلاغ عن حفل زفاف أو طهور لابن شخص من علية القوم، أو التبليغ عن فقد ولد، أو عن فقد مبلغ من المال، مع وعد بالحلوان لمن يجده.

في عمان، استمر عمل الدلال مدة أطول، فالدلال استمر في الإعلان عن مثل هذه الأمور، بل أضيفت إليها أمور أخرى يعلن عنها مثل: الإعلان عن موعد مباراة لكرة القدم بين ناديي الأهلي والفيصلي، أو ناديي الأردن والشباب، وهي من الأندية التي كانت قائمة في الخمسينيات والستينيات، وكانت المباراة تجرى آنذاك على ملاعب الكلية العلمية الإسلامية. أو كان يعلن عن عرض فني حي تشارك فيه فرقة سورية أو مصرية، يقام على مسرح سينما البتراء، حيث قدم في أواسط الخمسينيات عرض فني شارك فيه الفنان أنور البابا، الذي كان يقدم من إذاعة دمشق تمثيليات يقوم فيها بدور امرأة شامية هي: أم كامل. وفي الفترة نفسها تقريبا

قدمت فرقة رمسيس المصرية بقيادة يوسف وهبي عرضا لمسرحيته الشهيرة آنذاك: كرسي الاعتراف، على مسرح سينما بسمان. وتقاضى الدلالون رواتب من الحكومة نظير خدمات مثل التبليغ القضائي، إعلام الجمهور بآخر البلاغات الرسمية،أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية وغيرها. وفيما كان الدلال، أو المنادي، كما كان البعض يشير إليه، يعلن في صورة تقليدية معتمدا على صوته الجهوري المنغم، كان الدلال الحديث يعلن عن مباراة أو عن عرض مسرحي أو فني عبر مكبر للصوت، ما كان إشارة إلى اضمحلال دور الدلال التقليدي، وارتفاع شأن الدلال الحديث الذي يستخدم «تقنيات » متقدمة نسبيا. إشارة أخرى إلى اضمحلال دور الدلال التقليدي، هي أنه لم يعد يتقاضى راتبا رسمياً من الدولة مثلما كان الأمر في السابق، بل أصبح يكتفي بما يسمى «شوفة الخاطر ،» وهو مبلغ يقدره الشخص الذي أسدى إليه الدلال الخدمة، ووفقا لأهوائه. عادة ما كان الدلال يأتي راجلاً، أو راكبا دابة، ثم تطور الأمر مع دخول الدراجة التي تطورت إلى دراجة هوائية قبل منتصف القرن العشرين، ثم سيارة كما كان عليه الحال إبان زفاف الملك الراحل الحسين على الملكة دينا العام 1955 ، فقد جاب الدلالون شوارع عمان على سيارات للتبليغ عن الحدث الهام والحفل الغنائي الكبير الذي رافقه وأحياه الفنان فريد الأطرش. وما زال هنالك من يذكر من سكان عمان إعلانا عن حفلة يقيمها «الموسيقار الكبير فريد الأطرش ونخبة من الفنانين الآخرين على المدرج الروماني. » والطريف أن الدلال كان آنذاك قزما ذا صوت جهوري كان يقبض على الميكرفون، ويعلن عن أسماء الفنانين المشاركين في الحفل ا لمذكور، ومنهم الفنانة الراحلة مها صبري والمنولوجست الراحل أحمد غانم.

كان ذلك الإعلان يتم بالتزامن مع إعلان آخر عن الحفل نفسه الذي أقيم العام 1964 ، يبث من إذاعة عمان. وكانت تلك إشارة إلى أن زمن الدلالة قد ولى إلى غير رجعة. وربما كان ذلك القزم الذي أعلن عن حفلة فريد الأطرش آخر دلال شهدته شوارع عمان، فقد بدأت وسائل الإعلام في التطور؛ تطورت الصحافة، والإذاعة، ثم أتى التلفزيون لتصبح مهنة لدلالة أثرا بعد عين.

الدلال: قزم على سيارة يعلن عن حفلة لفريد
 
19-Feb-2009
 
العدد 64