العدد 64 - الملف
 

محمد علاونة

أدوات عطارة، أعشاب، ملابس وأصواف ومواد غذائية، زيت وتمر وصابون، وضعت متناثرة وسط جموع من المواطنين الذين يسألون تجارا من السلط ونابلس والقدس ودمشق عن الأسعار.

بدأت التجارة في الأردن مع تشكل جماعات صغيرة قدمت من الشام تزامن مع وصول أول مجموعة من الشركس «قبيلة الشابسوغ » العام 1869 ، التي قدمت عبر تركيا إلى دمشق ثم من هناك إلى عمان وأقامت في المدرج الروماني. تلك الجماعات شكلت مستهلكين عندما بدأوا بالبحث عن ما يلزمهم من ملابس وغذاء، لتبدأ تبادلات تجارية متواضعة ازدهرت نسبيا مع وصول السكة الحديد في منطقة المحطة التي حملت اسم سكة الحديد العام 1903 . بدأت منافسة حادة بين بيع القماش الذي تلاعبت به نسمات صيف حزيران / تموز، وإكسسوارات صنعت من أشجار الزيتون، ومواد غذائية أساسية مثل: السكر والشاي والأرز والمخللات.

المشترون يأخذون في الاعتبار من يبيع وإلى أي عائلة ينتمي، لكن جودة البضائع القادمة من الشام أو تلك الأدوات التي صنعها الشركس الذين قدموا الى الأردن تكون في العادة هي المؤشر الرئيس في اتخاذ القرار. التجار من الجنسيات المذكورة بقوا في البلاد، ومن المحطة انطلقت شرارة البيع والشراء الى شارعي الملك فيصل والملك طلال حيث بدأت انطلاقة رجال أعمال أسسوا شركات نمت وكبرت مع نمو عمان التي أصبحت على ما هي عليه اليوم، وأصبحت تتعامل بمئات آلاف الدنانير، ما جعل الحاجة ماسة إلى إصدار قانون غرف التجارة والصناعة الأردنية العام 1949 ، لتكون ممثلا للقطاع الخاص في المجالات: الاقتصادية والتجارية والخدمية كافة.

تلك الشوارع كانت أشبه بالأنهار، لكن ما يجري فيها لم يكن ماء، بل سيولاً من المارة الذين كانوا ينطلقون من المحطة كما ينبع الماء من مصدره.

منكو، خرفان، الحنّ، الصيفي، بدير، والخليلي، أسماء ما زالت تحتفظ بصداها في الاسواق التجارية التي انطلقت من وسط البلد لتمتد الى كل ركن في أرض المملكة، وتتحول على مر الزمن إلى محلات تجارية ومولات وشركات لتوظيف الآلاف. السكر والارز والمكسرات كانت سلعا أساسية تشترى بكميات تكبر أو تقل بحسب حاجة الزبون ووضعه المادي، تنقل على ظهور الدواب، ويطلق عليها اسم «المونة .»

عضو غرفة تجارة عمان رياض الصيفي ما زال يمتلك محلا في وسط البلد، ويدير أعماله من هناك منذ 40 عاما، يقول تغيّر الحال من دكاكين صغيرة وتجمعات لأسواق شعبية إلى مولات وسوبرماركت. الصيفي ما زال يفتتح محله صباح كل يوم، يمتلك مكتبا في وسط البلد الذي من خلاله أسس شركة كبرى لتجارة الأرز والسكر والحبوب. الأهمية التي كان يتمتع بها وسط البلد، بحسب الصيفي، هي أنه كان المركز الوحيد بجانب مركز آخر لسوق شعبي في الزرقاء، بينما الآن كل المناطق لها مراكزها الخاصة بها، والتي تضم الأسواق والمستشفيات والمدارس والخدمات الأخرى. ويرى الصيفي أن وسط البلد ما زال يحتفظ بعبقه القديم مع وجود محلات بيع السكر والأرز والحبوب والمكسرات التي بقيت ثابتة، رغم المد المتسارع للتجارة في الأردن التي دخلت منحنيات متشعبة الأصول من مستورد ووسيط وبائع جملة ومفرق، أما قديما فكان المصدر واحداً. العطار أحمد الحنّ، يستذكر الإقبال الملحوظ على العطارة والأعشاب في زمن كانت فيه المستشفيات محدودة، وعدد الأطباء لا يتجاوزون العشرات.

الحنّ، الذي ورث المهنة عن أبيه، ويعمل فيها منذ 30 عاما، يشير إلى المد الواضح للملابس الجاهزة على حساب الأقمشة التي كانت، لكنه استطرد قائلاً: «إن وجود محلات أقمشة بجانب الجامع الحسيني منذ 50 عاما وما زالت تتداول البضائع نفسها من أصواف وحرير .»

العطارة كان يقبل عليها البدو أكثر من غيرهم، لاعتقادهم بأنها تشفي الأمراض، ووسط مخاوف من مراجعة الأطباء. يقول الحنّ: «هنالك أسماء لمعت في تجارة العطارة مثل شعبان وقريوتي وأبو شام .» أطلق على الأردن آنذاك اسم «بنت الشام ،» فمثلما كانت دمشق تفيض بالخيرات من المواد الغذائية والمنتجات الزراعية، فإن الأردن كان لديه كثير من المنتجات؛ محاصيل متنوعة من حبوب وخضار وفواكه، لكنه الآن يرى أن

المستوردات حدّت من الإنتاج وطغت المهن الحرفية واليدوية. أما عضو غرفة تجارة عمان هاني الخليلي فيستذكر وكالة فورد للمركبات في وسط البلد، والتي نشطت أعمالها في الخمسينيات، ووكالة فيات بجانب المسجد الحسيني، وهو يتذكر أن الراديو كان السلعة الأساسية في جانب الكماليات. الخليلي الذي يمتلك الآن شركة تعمل في مجال الكهربائيات وهو وكيل لعدة ماركات عالمية، يشير إلى أن غسالة «أكما » شهدت

إقبالا ملحوظا في تلك الأيام، وكانت تذاع نشرتها الدعائية عبر الراديو، في إشارة إلى التطور الذي شهدته صناعة الكهربائيات التي شهدت بدايات متواضعة في المملكة قبل عشرات السنين. صناعات يدوية راجت في الخمسينيات مثل صوبات تقليدية للتدفئة، كان يصنعها السمهوري، أما الأفغاني، بحسب الخليلي فتميز بصناعة الأدوات التقليدية والسلع الشرقية المحفورة من أشجار الزيتون. وبما أن طائرات الشحن والبواخر والمركبات تشكل الخدمات اللوجستية لتسويق البضائع ونقلها، كان العتالون هم الذين يقومون بتلك الخدمات قبل العام 1960 ، واقتصرت عمليات النقل آنذاك على الحمالين والعربات اليدوية، أجورهم لم تكن تتجاوز القروش. كانت الدواب أيضا تشارك في عمليات النقل للمسافات البعيدة، في منافسة لحاملي « القفة »، بينما العربات اليدوية تجوب الطرقات الضيقة بحثا عن مستخدمين. تأسس «اتحاد غرف التجارة الأردنية سابقاً » وباشر نشاطاته في 19 كانون الأول/ديسمبر من العام 1955 ، بموجب قانون غرف التجارة والصناعة الأردنية رقم 41 لعام 1949 . غرفة تجارة عمان كانت تأسست العام 1923 ، بحسب البيانات الصادرة عن غرفة التجارة الأردنية، وفي غرفة تجارة عمان فقط كان عدد الأعضاء المسجلين 32 ألف عضو. تجارة الجملة والتجزئة تحتل مرتبة متقدمة في معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي، بنسبة 9.4 في المئة، بحسب الأرقام الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة.

التجارة: من محلات العطارة إلى المولات
 
19-Feb-2009
 
العدد 64