العدد 64 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

المسافة من الزرقاء إلى أروشا في قلب إفريقيا السوداء، محفوفة بالمصاعب والتحديات وحتى المؤامرات التي حاكتها أيد خفية ضدها. ومع هذا يظل ديدنها أن «تحافظ على وجه الأردن المشرق». وفق ما تقول.

جاء شهر كانون الثاني/ يناير من العام 1945 ليحمل لأسرتها خبر إطلالتها على الدنيا، وأطياف طفولتها تعلق بـ«شارع السعادة» حيث والدها مصطفى حكمت العياشي، الحاكم الإداري لعدة محافظات أردنية ومدير «نافي الجيش» في الزرقاء، وهو الضابط السوري خريج الكلية الحربية في أسطنبول الذي ثار ضد الفرنسيين إبان ثورة هنانو 1920، وسجن برفقة ثلاثة من رفاقه في قلعة حارم من أعمال حلب. لكنهم تمكنوا من الفرار ولجأوا الى الأردن «بلاد الشام كانت بلداً واحداً في تلك الأيام»، وخدموا في الجيش العربي. أما والدتها نجمية حكمت، فتركية الأصل، مثقفة وذات شخصية قوية، ألفت كتاباً أدبياً شيقاً عن حياتها بعنوان «60 عاماً من حياة امرأة أردنية».

حال إنهائها لدراستها الثانوية، لاحت لها فرصة للدراسة في «الجونيور كوليج» التابعة للجامعة الأميركية في بيروت، لكن الظروف وتدخلات بعض أفراد العائلة حالت دون سفرها.

تغلبت على الإحباط الذي داهمها جراء ضياع فرصة «الأميركية» وتقدمت بطلب للعمل في وزارة التربية والتعليم، وعينت معلمة للغة الإنجليزية والتربية الفنية، رغم أنها لم تهو التعليم. وانتسبت إلى جامعة دمشق دارسة للحقوق. فلطالما حلمت بروب المحاماة.

هوى الشآم ما برح يسكن فؤادها، حيث ما زال للياسمين نصيب في تذكارها لأجمل فترات حياتها، كما هو الحال لأساتذتها «فؤاد دهان ورزق الله الإنطاكي».

اقترنت العام 1970 بالضابط في الأمن العام زيد الحباشنة ولهما من الأولاد: يزن، ومجد، وثلة من الأحفاد.

حازت البكالوريوس العام 1972 وفكرت باحتراف المحاماة، لكن مسؤولياتها كأم دفعتها لدفن الفكرة، والاستمرار في سلك التعليم لغاية العام 1982. حيث طلبت الإحالة على التقاعد لتمتهن مهنة أحلامها، بعدما شب أولادها عن الطوق.

عملت في مكتب شقيقها طاهر حكمت، واختصت بالقضايا الجزائية الخاصة بالعنف ضد المرأة والطفل. كما انخرطت في العمل التطوعي في إطار مؤسسات المجتمع المدني عبر المشاركة وترؤس لجان قانونية لتعديل التشريعات المتعلقة بالمرأة وإزالة التمييز. «عدلنا كثيراً من التشريعات لكن تطبيقاتها ما زالت دون الطموح».

في مقابلة صحفية في بداية عملها في المحاماة قالت «المحاكم غابة للرجال ولا متسع فيها للمرأة»، ورداً على سؤال حول المرأة كقاضية أجابت: «إذا سمح بذلك، فإن شاء الله سأكون أول قاضية». «جريدة أخبار الأسبوع 1982».

شاركت العام 1995 في مؤتمر بكين، وكان من أهدافه العمل على إعادة تقييم القوانين والأنظمة ذات العلاقة بوضع المرأة في دول مختلفة.

أطلقت الأميرة بسمة شرارة الانطلاق، لعملية إعادة التقييم التي تبين معها أن المجال الوحيد الذي لم تصل اليه المرأة الأردنية هو القضاء، وبدأت حملة في هذا الصدد،وضمن خطاب العرش الذي ألقاه الملك الراحل الحسين العام 1996 فقرة تتحدث عن دخول المرأة سلك القضاء.

«لا توجد موانع قانونية لتعيين امرأة في منصب قاضٍ، وإنما المانع الحقيقي هو اعتماد تفسير خاطيء للإسلام، رغم أن عمر بن الخطاب عين قاضية اسمها الشفاء، كانت مسؤولة عن الحسبة».

تنافست خمس محاميات على المنصب، وفازت بمنصب القاضية يوم 15/6/1996 ومساعداً للنائب العام في القضايا الحقوقية، ثم نقلت الى محكمة استئناف ضريبة الدخل، فقاضية في محكمة الجنايات الكبرى. الآن هناك 40 قاضية في البلاد.

التهنئة الأولى وصلتها من الملكة نور الحسين، التي عينتها في مجلس أمناء المجلس الوطني للطفولة. ويذكر زميل لها «أن قضاة المحاكم الشرعية كانوا من ضمن من قدم التهنئة لها، ما عُد انتصارا للمرأة».

العام 2000 سافرت الى بريطانيا، وكانت رئيسة مشروع حماية الأسرة، وصدمت حين عادت بلوحة رسمتها ابنتها مجد تمثل «فتاة حافية تنسدل جدائلها انكساراً تحت جسر قصي»، واعتبرت أن سفرها وانشغالها عن أسرتها من جملة الآثار السلبية للمشروع.

رشحت العام 2002 لعضوية المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

«أدى تخلف الروتين الحكومي وأصابع لعبت من وراء الكواليس إلى إضاعة الفرصة على القاضية حكمت» بحسب مطلع على القضية.

المنافسة على المنصب كانت شديدة، واضطرت للسفر الى بودابست للمشاركة في ندوة حضرتها 10 مرشحات من دول مختلفة. وحال عودتها، فوجئت بأن الدنيا قامت ولم تقعد ضدها.

«تسلم رئيس الوزراء حينها علي أبو الراغب قائمة تضم 13 اسماً من القضاة، فقرر عرضها على الملك عبد الله الثاني، وتم اختيارها ثانية». وفق شخصية سياسية عاصرت الحدث.

راسلت الحكومة مندوب الأردن الدائم في الأمم المتحدة الأمير زيد بن رعد، تعلمه بأنها مرشح الأردن للمحكمة الدولية، فرد بعد أيام بأن أوراق المرشحة ناقصة. «لكنّ أيا من العاملين في الخارجية لم يتصل بي، ولم تمهر رسالة الأمير زيد بعبارة (ملحة). فضاعت الفرصة. وعندما سألت قيل لي: «دوّرنا عليكي ولم نجدك».

حاول وزير الخارجية مروان المعشر تطييب خاطرها « الحق أن لا حق على المعشر في إضاعة فرصة ثمينة على الأردن، لكن آخرين في الوزارة يتحملون المسؤولية كاملة». وفقها.

بعد أسبوع جاء كتاب من الأمير زيد يؤكد أن «مجلس الأمن استحدث شواغر في المحكمة الدولية لجرائم الحرب في رواندا، وأرجو ترشيح القاضية تغريد حكمت وعنوانها كذا وهاتفها كذا».

اتصل المعشر بها وسألها : «بدك تروحي». فأجابت نعم. وسافرت الى نيويورك لخوض الحملة الانتخابية لهذا المنصب، وصارت في العام 2003 أول قاضية عربية مسلمة في تاريخ المحكمة الدولية.

السفر إلى تنزانيا التي لا تعرف عنها شيئا أثار قلقها، لكن تشجيع زوجها وقراره بالسفر معها سهل عليها كثيراً « لولا دعم زوجي لي في كل مراحل حياتي، ما كنت لأحقق ما حققته».

18 قاضياً و1600 موظف في المحكمة الدولية يمثلون ستين دولة، أتاح لها زيادة الاطلاع والاختلاط بثقافات شاسعة. القضاة يركزون جهودهم على محاكمة مرتكبي جرائم الحرب في رواندا منتصف التسعينيات.

مؤخرا.. أصدرت القاضية حكمت حكما بالسجن 11 عاما ضد أمين العاصمة كيغالي، رغم أنه لم يشارك في الجرائم التي وقعت في الحرب الأهلية بين الهوتو والتوتسي، لكنه التزم الصمت ازاءها ولم يتخذ أي إجراء.

منذ 2006 تحاضر في جامعة هارفارد، واختارتها الجمعية الأميركية للقانون الدولي «المرأة المتميزة في القانون الدولي» . وكرمتها مركز دراسات مشاركة المرأة العربية، ومقره دبي العام 2004.

العام 2007 انتهت مدة ولايتها كقاضية في المحكمة الدولية، لكن مجلس الأمن جدد لها لغاية 2008 ثم لأواخر 2009.

تؤمن بأن عليها كقاضية أن تطبق القانون، «لكن إذا كان القانون جامداً فلا يوجد نص لا يحتمل التأويل، واذا كان القانون ميتاً فالقاضي حي».

داهمها السرطان، لكنها انتصرت عليه، ولم تترك للمرض أو العلاج العنان ليؤثر في عملها وحياتها.

..النمر الذي عثر عليه الصياد ميتاً في «ثلوج كلمنجارو». هيمنغواي، حاول تحطيم المستحيل مؤثرا صعود القمم على السفوح، لكنها تسلقت كلمنجارو.. لترسخ العدل، تلك القيمة التي لا تستقيم الحياة إلا معها.

تغريد حكمت: إذا كان القانون ميتاً قالقاضي حي
 
19-Feb-2009
 
العدد 64