العدد 64 - الملف | ||||||||||||||
محمد جميل خضر حظيت عمان برصد إبداعي مواكب لصيرورتها الاجتماعية والعمرانية والسياسية والاقتصادية، وأتيح لمعظم من حاكاها برواية أو قصيدة أو قصة قصيرة أو نص مفتوح أو حتى مقالة صحفية، أن يكون في حالات عديدة متعينة، شاهداً على إرهاصات تكوّنها المديني، وتطورها البنياني والسكاني والحضاري. ولأنها بعد عودتها من النسيان، حققت معظم صورتها القائمة اليوم، توسعاً وبنية تحتية واستيعاباً للنسيج المجتمعي الحاملة ملامحه والحامل ملامحها، في الزمن المتعيّن بين يدينا، الذي لا يتعدى، في أحسن الأحوال، مئة عام )عمرها البلدي المجالسي(، فإن روائياً مثل الراحل زياد قاسم كتب عنها بعينيه وذاكرته ومواكبته لتطورها، طفلاً ترعرع حول سيلها، وكبر في حاراتها، وشهد بحسه الروائي الرصدي اللمّاح، كيف كبرت الطفلة التي اسمها عمان معه، وكيف بلغت الفطام، وتوقفت عن كونها قرية كبيرة، ترتع حول سيلها وفي قاعها خيول العابرين، وأبقار الحرث وبغاله وأدواته البدائية الأخرى. وكيف بدأت تنفضّ عن مجرى الماء وعلى ضفتيه أشجار التين والتوت والرمان اللوزيات، ليصير للمدينة التي بدأت تكبر، شوارع من )الإسفلت(، وأسواق متخصصة، وحانات متعددة الأغراض، ومسجد كبير، ومبان عامة، وبنك يقف شامخاً في ميدانها الرئيسي آنذاك )ميدان فيصل(، ومقر للدرك، ورويداً رويداً فنادق صغيرة ليرتاح فيها المارون والمتخذون منها محطة على طريق طويل. في هذا السياق، جاء معظم ما كُتب عن عمان مستوعباً تلك الخصوصية، خصوصاً على صعيد الرواية، الحقل الأدبي الأبرز حالياً، والأكثر قدرة على الصمود، والمناورة، والتجلي على شكل تسلية مشوّقة، أو ميدان خصب للدراسات والبحوث والقراءات النقدية المعمّقة. يرى نزيه أبو نضال في دراسة له حملت عنوان «توحيد المختلف وحماية التنوع »، أن عمان وبما لم يحدث في حالة عواصم عربية أخرى كالقاهرة أو دمشق، لم تكن مجرد إطار لأحداث رواية ما، بل شكّل مكانها نفسه ووقائع تطورها موضوعات للروايات وللسير أيضاً، ويعلّق قائلاً «هنا بالضبط تصبح المدينة بطلاً وفضاءً لذاتها وليست مجرد إطار أو مكان لأبطال وأحداث .» ويرى أبو نضال أن هذه الحالة الاستثنائية لعمّان لم تكن بسبب تاريخيتها، وإنما لأنها، «ليست مدينة منجزة ومكتملة كالقاهرة أو دمشق أو بغداد مثلا. صحيح أن هذه المدن كانت كمكان مسرحاً للعديد من الروايات، ولكنها لم تكن هي نفسها موضوعا للرواية .» وفي سياق رصد ما كتب عن عمان ومنها وفيها على صعيد الرواية، يبرز الروائي الراحل زياد قاسم كواحد من أهم من أفاضوا في تنكب خطو المدينة نحو الحضور والتحقق، وتحديداً في روايته «أبناء القلعة » الأهم في هذا السياق، وبدرجة أقل في الجزأين الأولين من روايته «الزوبعة » اللذين يرصدان حراك الجيل العمّاني المحلي الأول. ولعل زياد قاسم، وفق المقاييس كافة، هو راوي مدينة عمّان الحديثة الأول بلا منازع. فقد تمكن من رصد ومتابعة المشهد الكلي لمدينة عمّان في لحظة تطورها ونموها الفعليين، وأن يقيس بحسابات غاية في الدقة والرهافة حجم وثقل المكونات البشرية التي شكلت المدينة: الشركس، السكان المحليون، والبدو المقيمون، والفلسطينيون، والشوام، وآخرون وفدوا من العراق ولبنان ومصر. وإلى جانب المكونات الاجتماعية كان عليه تقديم هؤلاء الناس من خلال علاقتهم بالعمل والإنتاج، ومن خلال علاقتهم بالثقافة أو السياسة العامة والأحزاب، ثم متابعة اهتمامات الناس وحياتهم اليومية بمختلف جوانبها. وكان لا بد من وجود شبكة من العلاقات الاجتماعية المبررة فنياً لتربط كل هذا النسيج الاجتماعي المتنوع، وهو في حالة حركة وتطور مستمرين. فتختفي شخصيات أو يتراجع دورها ويضمر بينما تتقدم شخصيات أخرى ويتعاظم دورها، وكل ذلك محسوب على قاعدة ما ترمز إليه هذه الشخصيات من مجاميع ومكونات اجتماعية أو سياسية أم مهنية. ففخري الشركسي الذي أخذ مكان الصدارة والبطولة بين «أبناء القلعة » في الخمسينيات، لا يلبث دوره أن يتراجع ويتهمش إلى مجرد مدرس للألعاب الرياضية في أواخر الستينيات، في إشارة واضحة، على الصعيد التاريخي، لمكانة الشركس ودورهم في نشأة مدينة عمّان وبنائها، ثم تراجعهم كأقلية هامشية، بعد التحولات الديموغرافية والاقتصادية الهائلة التي شهدتها عمّان، وجعلت فئات وقوى اجتماعية جديدة تحتل مكان الصدارة في حياة البلاد.. فلم تعد الفروسية وملكية الأرض والعقار هي العنصر الحاسم، فقد بدأت شروط أخرى تفرض نفسها، من خلال التجارة واقتصاد الخدمات، فتقدم التاجر الفلسطيني أنور علي ليحتل مكان الصدارة، كرئيس لغرفة تجار عمّان، وإلى جانبه مالك الوصولي الذي كان مجرد تابع هزيل لفخري، كما تقدم عواد النمر الأردني، إمبراطور النقليات وإلى جانبه أنطوان اللبناني، وفي السياق نفسه تقدم أبو عبده الشامي صاحب المقهى ثم معمل الكازوز، والذي تحول أخيرا إلى صانع حلويات ومعه ابنته نجاح وزوجته أم عبده، كما تقدم خليل الفلسطيني صاحب مصنع )كازوز( منعش، ثم البدوي الشهم والمرابي أيضا حران. وكانت عمان في وجدان الكاتب والناقد محمد عبد الله القواسمة عندما كتب «شارع الأربعين ». وكانت حاضرة في رواية سميحة خريس «دفاتر الطوفان »، وفي رواية هاشم غرايبة «الشهبندر »، وكانت جوهر المدى الذي وصلته الروائية الراحلة زهرة عمر في روايتها «الخروج من سوسرقة »، وكانت مآل الرصد الروائي فيها ومنتهاه. ومنذ «مخلفات الزوابع الأخيرة 1988( » (، وحتى «عندما تشيخ الذئاب » الصادرة قبل أيام، كتب جمال ناجي عن عمّان أخرى، هي عمان الحاضرة المترامية الأطراف، التي لم تعد قرية صغيرة واعدة بتحولات كبيرة. عمان البدايات عند زياد قاسم أصبحت عمان المتوحشة عند جمال ناجي الذي رصد تحولات عمان عبر تطور رأس المال والمؤسسات المالية )الحياة على ذمة الموت وليلة الريش(، وأخيراً «في عندما تشيخ الذئاب، التي تحكي عمان في حاضرها المعقد وشخوصها التي لا تقل تعقيدا. وبين تطور مشهد غجر سكنوا وادٍ وأقاموا مدينتهم في «مخلفات الزوابع الأخيرة »، وبين شخصيات تتبادل واجهة الأحداث ومركزها في أحياء عمّانية متعينة ولها أسماء، وجبال مذكورة بوضوح واقعيّ في «عندما تشيخ الذئاب »، ينسج ناجي عالماً من داخل تجربته كعمّاني خبر المكان، وكان جزءاً من حراكه وتكوّنه، وتناقضاته، وصورته الماضية نحو أقدارها. وفي اتجاه مغاير، إلى حد ما، قرأ الشعر المحلي عمّان فقد اتخذت الكتابة عنها هنا وجهة رومانسية يكثر فيها ذكر أمكنتها، وجبالها، وقهوة صباحها، وهيلها وحنائها. وإن كان هناك من شاعر لعمان فهو حيدر محمود: «أرخت عمان جدائلها فوق الكتفين/ فاهتز المجد وقبّلها بين العينين/ بارك يا مجد منازلها والأحبابا/ وازرع بالورد مداخلها باباً بابا/ عمان اختالي بجمالك وازدادي تيهاً بدلالك/ يا فرساً لا تثنيه الريح / سلمت لعيني خيالك .» وباللهجة المحكية كتب لها الشاعر حبيب الزيودي «صباح الخير يا عمان يا حنة على حنة/ يا فوح الخزامى والندى يا ريحة الجنة .» وكتب فيها الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود: عمان أنت من العصور الأولى/ فقت الجمال منابتا وأصولا/ وشربتِ من ألق الفوارس نبضهم/ وشرقت من شمس الأصيل أصيلا/ وسحرت صبح العاشقين صبابة/ وجعلت منهم مغرما وقتيلا. وحظيت عمان بمساحة معقولة في القصة القصيرة المحلية، ورغم تحولات الكتابة القصصية في الأردن، ونزوع كثير من نماذجها نحو التجريد، وقتل الزمان والمكان وأسماء الأبطال، لصالح رصد التداعيات النفسية لأبطال مهمشين خارج الزمان والمكان والذاكرة، إلا أن عمان لم تغب عن كتابات قصصية أخرى أقل اغتراباً، وأكثر تعالقاً مع المكان العماني، كما في بعض قصص أحمد النعيمي، وقبله فخري قعوار، والراحليْن بدر عبدالحق، ومحمد طمّليه وغيرهم. |
|
|||||||||||||