العدد 64 - الملف
 

هند أبو الشعر

لقلب عمان نبض خاص، وروح عصيَة على التدجين، ولعمان مسيرة أطول من الدهور وأعمق من الزمن البعيد، سمَوها ما شئتم؛ ربَة عمون، فيلادلفيا، مدينة الحب الأخوي، مدينة المياه، لا يهَم، فهي كل هذا، وهي عمان! مرَت بها حضارات تبدأ من )عين غزال( عام 7500 ق.م، وعمَر العمونيون قلعتها، واحتلها اليونان وبنى فيها الرومان الجسور المكينة، وبنى فيها العرب الجامع العمري، ويقع )بطرف السوق(، وازدهرت أيام بني أمية لأسباب اقتصادية وسياسية، إلا أنها فقدت رونقها ومكانتها مع سقوط بني أمية، حيث اتجه العباسيون نحو المشرق، وأقاموا دولتهم في العراق وبنوا بغداد، فتراجعت مكانة أطراف بلاد الشام، وتحولت عمان إلى قرية زراعية مكتفية بنفسها، وبفعل الزلزال العظيم الذي دمر بلاد الشام أواخر أيام بني أمية، تهمش دورها، وتحولت مع الزمن إلى معبر للحجاج والتجار، والى مكان عبور مؤقت للقبائل البلقاوية في رحلاتها الموسمية المعروفة باتجاه الغور أو جبل العرب، وأصبحت خرائب تقف شاهدة على الماضي، بإطلالة شامخة على السيل. تختصر مسيرة عمر تبدأ مع قرية عين غزال، وتقف على مشارف القرن التاسع عشر الميلادي، في ظل الدولة العثمانية، فكيف استعادت عمان حضورها من جديد؟ أرادت الدولة العثمانية ردع القبائل البدوية وتثبيت سلطتها، ومع تعيين مدحت باشا العظيم ) 1878 - 1879 ( والياً على سوريا، اقترح إسكان المهاجرين من أبناء القوقاز في أنحاء متعددة من ولاية سوريا، لزيادة مساحة الأراضي المزروعة، وظهرت أثناء ولايته فكرة مشروع ولاية عمان الحميدية، التي تضم سنجق الكرك وقائمقاميات معان والشوبك وحسبان والسلط وعين الزرقا، وتكون عمان مركزها)نظراً لاهمية عمان السابقة، فقد كانت عاصمة في عهد الرومان وتسمى فيلادلفيا(، وأكد المشروع المقترح ان هذا التنظيم الإداري الجديد، سيساهم في توطين 500 أسرة من المهاجرين، وتوطين البدو، حيث يتوافر للولاية المقترحة السكان والأراضي المروية والثروة الحيوانية الوفيرة، ومع أن المشروع الذي تقدم به الصدر الأعظم )كمال باشا( إلى الباب العالي سنة 1878 ، ظل حبراً على ورق في الاستانة، فإنه تحقق على ارض عمان، بإسكان المهاجرين في المناطق المروية. وشاهد الرحالة أوليفانت الذي زار خرائب عمان سنة 1878 عائلات من قبيلة الشابسوغ الشركسية تستقر في المدرج الروماني، وتوالى قدوم الشراكسة حتى وصل سنة 1899 إلى 500 أسرة، وتشكلت المحلات )الحارات( المعروفة: الشابسوغ، الابزاخ، القبرطاى، راس العين، وكان لكل قبيلة مرافقها في كل حارة : الجامع ، الدكاكين، الدور والعقارات، المغر، الابار، البيادر، الطرق التي أخذت تسير عليها العربات الشركسية بعجلات، البساتين، اليواخير وغيرها من المرافق، وفي عام 1892 ،

احتوت محلة الشابسوغ على 120 أسرة و 35 دكاناً ومصبغة ومكتبين للتعليم، وكانت المحلة تقع حول المدرج الروماني وسفوح جبل القلعة،

وامتدت على جانبي الطريق السلطاني، ويربط الجسر الذي أقيم سنة 1909 أجزاءها الجنوبية بالشمالية، ليسمح للأهالي باجتياز السيل شتاء، وكان في الحارة)دار الحكومة( أي السراي، وتقع قرب جامع الشابوغ، وفيها مبنى البوستة والتلغراف، ودار البلدية التي أنشئت عام 1909 ، وبالمقابل بلغ تعداد بيوت محلة القبرطاي سنة 1892 ) 139 ( بيتاً، تمتد حول الجامع العمري ، وفي أسفل جبل القلعة، ويخترقها الطريق السلطاني، وفيها جامع القبرطاي والجامع القديم )العمري( وهو الجامع الحسيني اليوم، فضلاً عن مخفر وسبيل تركي عند مدخل الجامع العمري، مع كتابَ يخدم أهالي المحلة، الذين ازدادت أعدادهم بسبب تزايد الهجرات مع مطلع القرن العشرين ، فشكل المهاجرين الجدد من القبرطاي محلة جديدة عند رأس العين عرفت )بمحلة المهاجرين( سنة 1902 ، وعمرتها 129 أسرة شركسية، إلا أننا لم نجد تحديداً بعدد الدكاكين أو وصفاً لسوق المحلة آنذاك.

وأخيراً، فقد كانت محلة الابزاخ صغيرة، وتضم 35 أسرة فقط، ومع ذلك كان فيها تسع دكاكين وجامع صغير للمحلة، هكذا بدأت عمان، وهكذا كانت قبل مرور خط سكة الحديد الحجازية فيها بعد إعادة إعمارها بربع قرن، فكيف بدت عمان بعد مرور السكة فيها.

كان مرور السكة من عمان حدثاً فاصلاً، حول القرية الوادعة إلى مقّر عسكري، إذ اتخذت ولاية سوريا من قرية عمان مقراً لهيئة السوقيات العسكرية في جنوبي ولاية سورية، كما أصبحت عمان مركزاً لمرور الحجاج، وبالتالي سوقاً ومستقراً للموظفين من العاملين بالسكة، وقبل أن يستكمل العمل بالمحطة، أرسلت الدولة قائد الدرك) خسرو باشا( سنة 1902 إلى عمان للإشراف على إسكان 800 مهاجر وبناء مساكن لهم، وتلا هذا الأمر تفويض الأراضي لهم، وبدأت جماعات من اللازكي والداغستان باستيطان عمان وجوارها، سنة 1910 ، واجتذبت عمان القادمين مع السكة من أهالي معان ودمشق وباقي أطراف وحواضر بلاد الشام ومن نابلس والقدس ومن أهالي نجد من العقيليين، كما اجتذبت أبناء الجوار من أهالي السلط والفحيص وأبناء العشائر البدوية التي كانت تعتبر عمان )ديرتها( ومسرحاً لمواشيها

ولهجراتها الموسمية، وأصبح سوق عمان القديم )سوق الحلال( موقعاً جاذباً للعقيليين من نجد، ولأبناء العشائر الذين أفادوا من مرور خط السكة

بعمان، واجتذبت أطراف المحطة العديد من تجار المواشي والفلاحين، الذين أخذوا يسوقون إنتاجهم من المحطة إلى الحواضر التي يمر بها

القطار، فارتفعت قيمة الحاصلات، وانعكس هذا الحال على تجار المواشي والمربين والفلاحين في آن .

هذه النقلة السريعة في ربع قرن فقط، شكلت مجتمع «ناحية عمان » ومركزها قرية عمان، التابعة لقضاء البلقاء وقصبتة، السلط، التابع لمتصرفية الكرك) بعد 1893 م( فانتقل سوق عمان إلى حالة من الفعالية. وتمدنا سجلات المحكمة الشرعية )أقدمها يعود إلى 1901 (، بمادة طيبة لأوضاع السوق والدكاكين، من خلال )حجج حصر الإرث( التي تقدم عادة جرداً دقيقاً لموجودات الدكاكين. وقد امتدت عمان في العهد العثماني ) 1878 - 1918 ( لتشمل النواة، ثم حي المحطة، العزيزية، محلة الأغراب، ثم حارة المسيحيين وحارة الفلاحين، وكانت دور عمان عندها بسيطة، بطابق واحد، ومبنية من الحجارة والطين، إلا أن زلزال عام ) 1927 ( الشهير حول عمان إلى عهد جديد من البناء الهندسي، بأمر من مهندس البلديات، وتحولت عمان إلى مدينة جميلة من الحجارة المدقوقة بأيدي بنائين مهرة من نابلس والسلطة ودمشق ، بمتابعة مؤسسة من بلدية عمان، التي تأسست سنة 1909 . عرف النصف الثاني من القرن التاسع عشر، صدور قانون البلديات مع الدستور العثماني، وتأسيس دور البلديات في كل من إربد والسلط والكرك والطفيلة ومعان ثم في عمان ،وذلك سنة 1909 ، وكان أول رئيس للبلدية في عمان عادل اسماعيل بابوق ) 1909 - 1911 ( وانتقلت عمان إلى عهد جديد تتم فيه متابعة الطرق، وتراخيص الأبنية والسوق )س وق الحلال( والتجار ومراقبة الموازيين وباج الحيوانات، وتم فيه تطبيق مواد الدستور أسوة بباقي دور البلديات. ومع سقوط الدولة العثمانية العام 1918 ، كان عمر المجلس البلدي تسعة أعوام، وقد اهتم العهد الفيصلي ) 1918 - 1920 ( بالبلدية، ومع تشكيل إمارة الشرق العربي )آذار 1921 ( واستقرار الأوضاع الأمنية، بدأ الاهتمام بالطرق والتجارة، وتم افتتاح أول طريق )في 25 أيار 1924 ( بمناسبة عيد الاستقلال بجهود المجلس البلدي، وسمح التنظيم الجديد لعمان بظهور أسواق جديدة مثل سوق السكر، وسوق الصفدي وسوق الخضرة. وكان من واجبات البلدية متابعة الأسواق والباعة، وتحقيق الشروط الصحية ، وبعد زلزال عام 1927 م أصبحت للشوارع هويتها وأسواقها، ومنها شارع الرضا وشارع البلدية وشارع السعادة وشارع المهاجرين، إلا أن أهم الأسواق والتجمعات المهنية ظهرت في المحطة، ويمكن الإشارة ما بين عامي 1921 و 1930 إلى الشوارع والمواقع التالية من خلال سجلات البلدية: شارع الأمير طلال، شارع الهاشمي، شارع المحطة، طريق المقر العالي، شارع الشابسوغ، شارع النشا، شارع الاشرفية، شارع ميرزا باشا، شارع العزيزية، طريق مصدار عيشة، طريق رأس الماء، شارع الملك حسين، شارع الملك فيصل. هذه قراءة سريعة لعمان، منذ أن أعيد إعمارها، فمن يصدق أننا نتحدث عن قرية وادعة على ضفاف سيل عمان سنة 1878 ،

ومن يصدق أنها هي عمان سنة 2009 ؟ أحيانا وأنا اطل من نافذة سيارتي واعبر بها الأنفاق والشوارع والمناطق الحديثة والمراكز التجارية الضخمة والأبراج، أحس بأنني أعود فجأة إلى ضن هذه القرية الوادعة، التي كان يعرف كل واحد من أهاليها كل أهاليها، وأسأل نفسي، هل

هذه هي عمان التي اقرأ عنها؟ وعندما ادخل بوابة الجامعة الأردنية، حضن الوطن الدافئ، أحس بالشموخ؛ فنحن في قلب معجزة اسمها عمان؟

*كاتبة، مديرة المكتبة ودار النشر - الجامعة الأردنية.

عن قرية عمان وسوقها الصغير: إطلالة على المدى
 
19-Feb-2009
 
العدد 64