العدد 64 - الملف
 

فؤاد "محمد أمين" البخاري

ولدت في عمّان بتاريخ 1/ 2/ 1936 ، في منزل متواضع تعود ملكيته لعائلة «أبو شام »، بوسط العاصمة، وكان والدي قد حضر مع عائلته من الحجاز العام 1932 ، حيث افتتح أول محل لخياطة الملابس الإفرنجية. وقد أكتسب شهرة واسعة آنذاك، وبخاصة أنه كان الخياط الخاص للملك المؤسس عبد الله بن الحسين، عندما كان أميراً والبلاد كانت ما تزال في عهد الإمارة.

بدأت حياتي الدراسية العام 1942 ، عندما التحقت بالمدرسة العسبلية الابتدائية التي كانت تقع أمام المدرج الروماني. كانت عمّان في الأربعينيات غيرها اليوم، فحدود العاصمة آنذاك لم تكن تتعدى وسط المدينة حتى حي المهاجرين وقسم من جبل اللويبدة، ثم جبل عمّان، حتى ما قبل الدوار

الأول والذي كنا نطلق عليه اسم «البرية » لتواجد بستان أبو شام فيه. وفي هذا الدوار بنى الدكتور قاسم ملحس أول مستشفى وطني فيه، وذلك العام 1945 ، وحمل اسم مستشفى ملحس. وقد كنت أحد نزلائه في بداية إنشائه لمعالجة مرض التيفوئيد الذي أصبت به آنذاك، وللأسف فقد أغلق هذا المستشفى أخيراً أبوابه!.

في بداية الخمسينيات، وبعد الهجرة الفلسطينية مباشرة، بدأ بالتدريج تغيّر الكثير من معالم عمّان العريقة، حيث أزيل الديوان الأميري المقر لرسمي للأمير عبد الله عندما كانت البلاد إمارة، ثم المدرسة العسبلية، وفندق فيلادلفيا، ومنطقة الجزيرة، ثم امتدت يد الهدم إلى مقهى العاصمة )سينما الفردوس سابقاً(، ثم مقهى حمدان الشهير، وعدد من المباني العريقة في ميدان فيصل. ومن معالم العاصمة الشهيرة، التي اختفت، وكانت التسلية الرئيسية لسكان عمّان دار سينما البتراء، والتي أتى عليها حريق أزالها من الوجود في منتصف الستينيات، فزال معها جزء رئيسي من ذاكرة عمّان، حيث كانت تعرض أرقى الأفلام العربيّة، والأجنبية، وكانت تخصص حفلات لسيدات عمّان، لأنها مدينة محافظة!.

ومن المعالم التي اختفت، وكانت متنفساً رئيسياً لسكان عمّان، بساتين طريق المحطة الغنّاء ثم متنزه رأس العين، وهو غير رأس العين بوضعه الحالي، حيث كانت تتواجد فيه جداول المياه الغنية بالأسماك، أما سيل عمّان، فكان يفيض أيام الشتاء، أيام الخير، وكنا نسمع هدير مياه الفيضان من شدة هطول الأمطار، وفي أيام الصيف يصبح السيل ملتقى لهواة السباحة من الشبان في أماكن الحوامات، كما كنا نمارس هواية صيد السمك الذي كان يتواجد بكثرة آنذاك في مياه السيل.

ومن المظاهر التي اختفت في شوارع عمّان عربة الشركس التي كانت تجرها الأبقار، ثم عربة الكاز التي كان يجرها حصان، وكان بائع الكاز يستخدم الكاز كإشارة إلى توفّر مادة الكاز لديه، ثم عربة الطنبر التي كان يجرها حصان، وكان الطنبورجي يقوم بنقل البضائع للتجّار بوساطتها.

وبمناسبة احتفالات أمانة عمّان بمرور مئة عام على إنشاء أول بلدية في عمّان العام 1909 ، يمكن الإشارة إلى أن خدمات بلدية العاصمة في فترة الأربعينيات كانت مميزة وفعّالة رغم أن جهازها الإداري يشغل ما لا يزيد على ثماني غرف، فقد كانت تقوم بتزويد سكان العاصمة بمياه الشرب وبالخدمات نفسها التي تقوم بها الآن سلطة المياه، ومن المعروف أننا ما زلنا نطلق على خط المياه الرئيسي اسم «مية البلدية ،» وهذا غير الخدمات نفسها التي تقدمها أمانة عمان اليوم، ومن الطريف أن البلدية آنذاك كانت تقوم بتلطيف الجو من حرارة الصيف حيث كانت تستخدم سيارة يُطلق عليها اسم «الرشّاش »، برش شوارع العاصمة كي تلطف حرارة الجو وتمنع انتشار الغبار المؤذي للعينين وللجهاز التنفسي.

أما مظاهر اللباس، فقد تغيّرت على مر السنين، فالطربوش التركي – النمساوي الأصل - اختفى من على رؤوس الرجال، وكذلك غطاء الرأس العراقي المسمى ب «الفيصلية - أو العراقية » الذي كان يزين رؤوس الشباب. والكوفية اختفت من على رؤوس الطلاب بعد أن كان محظوراً دخول الطالب إلى المدرسة الحكومية من دون أن يرتدي الكوفية، وفي الخمسينيات أصبحنا نشاهد الفتيات والسيدات وهن يرتدين الملابس العصرية. وقد رأى فيهن بعض المتشددين «كاسيات عاريات »!! فتعرض بعضهن لتهديدات بقذفهن بماء النار. أما العادات والمظاهر الاجتماعية، فقد اندثر كثير منها، وبعضها في طريقه إلى الاندثار مع ما لها من رونق وجمال، فلم نعد نسمع مدافع العيد لدى حلول العيدين: الفطر والأضحى، وكذلك اختفت مظاهرهما في ساحة المدرج الروماني، حيث كان يتجمّع الصغار في تلك الساحة التي كنا نطلق عليها اسم «الميدان »، وكان «الميدان » يزخر بالألعاب كافة، التي يتسلى بها الصغار، وكذلك اختفت بعض مظاهر الاحتفال بقدوم شهر رمضان مثل مدفع الإفطار وكذلك المسحر. ولعلنا نذكّر أبناء جيلنا بأشهر مسحر عرفته عمّان وهو «الحاج عمر » بطبلته المعروفة، أمّا الاحتفال الديني الذي اختفت مظاهره الجميلة تقريباً، فهو الاحتفال بعيد المولد النبوي، الذي كان تجار وسط العاصمة يحتفلون به ويزينون محلاتهم بأغصان الأشجار التي كانت توردها لهم بلدية العاصمة، ويزينونها بالسجاد العجمي واللمبات الكهربائية مع إقامة العراضة الشامية. ومن المظاهر الاجتماعية التي اختفت عادة التزاور بين الجيران، في حارات عمّان، والتي كانت تتم بالتناوب أيام الأسبوع فيما اصطلح على تسميته ب «الاستقبال .» ولا بد لي أن أشير أخيرا إلى أنني كنت أقضي العطلة المدرسية في محل والدي، أساعده في بعض أعمال الخياطة، وينطبق ذلك على العديد من زملائي الطلاب. هذه هي صورة عمّان في فترة الأربعينيات. هل بالغنا حين اعتبرنا تلك الفترة من تاريخها فترة الزمن الجميل؟.

عمان الأربعينيات: ذكريات الزمن الجميل
 
19-Feb-2009
 
العدد 64