العدد 64 - أردني | ||||||||||||||
محمود الريماوي لا يتوقف قلب عمان في «المدينة القديمة» عن النبض، لكن هذا النبض بات يشكو من اضطراب، ومن احتشاء حسب الوصف الطبي، نتيجة ضغط المركبات والتدافع التجاري والتلوث الصوتي واختلال الهوية المعمارية. يحتاج الأمر إلى إعادة تنظيم، تنطلق من الإقرار بخصوصية ومركزية «وسط البلد»، لا التعامل مع هذا الجزء من العاصمة كأية منطقة أخرى. يحقق التنظيم المقصود غاياته بضبط الإيقاع الحيوي والحفاظ عليه، وإغنائه بالجديد بما لا يمس نسقه، ففي زمن مضى كان قلب عمان رئة للفسحة والتنزه، وتزجية جذابة لوقت الفراغ إلى جانب التسوق. كان هذا القلب يجذب اليه أبناء المدينة من مختلف الجبال والمناطق، إضافة للقادمين من المحافظات. ومع ما امتاز به وسط البلد من روح شعبية وطابع شرقي، فقد اتسم كذلك بطابع حداثي في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. يشهد على ذلك الاختلاط الاجتماعي، والأزياء الحديثة، ودور السينما، ومرابع الغناء، فضلاً عن المطاعم: علي بابا، الأوبرج، الشرق، جبري وسواها، والفنادق متعددة المستويات التي نشأت أول ما نشأت هناك، ومن بينها فندق فيلادلفيا رفيع المستوى، ملتقى النخبة السياسية والاقتصادية، الذي امتدت إليه يد الهدم بغير وجل، ودون أدنى اعتبار لرمزيته السياسية والعمرانية. ولأن الحياة في قلب العاصمة تُركت على سيولتها، فقد برزت العشوائية دون أن يدركها التنظيم إلا في حدود دنيا، فأصبح وسط البلد في نظر كثيرين بؤرة ضغط طاردة، وكان لعقود طويلة من القرن الماضي عنصر جذب. وبات جيل جديد من أبناء العاصمة، ممن تقل أعمار أفراده عن الخامسة والثلاثين، على غير معرفة بهذا المركز التاريخي، الذي كثيراً ما جمع أشتات الناس وشرائحهم من الجنسين. ساهم في هذا الانفصال عن المركز: التمدد العمراني والحضري للعاصمة نحو الغرب والشمال، وقد نشأت مع هذا التمدد أسواق ومراكز جديدة، فبات وسط البلد يكافح للبقاء «على قيد الحياة» وسط زحمة التنافس. في سائر حواضر العالم فإن قلب العاصمة يعكس الخصوصية الحضارية للبلد، ويجسد نجاح الإدارة والتنظيم واستتباب الأمن فيها، بما يجعله مرآة للبلد و مركز إشعاعها ومدخلاً إليها . وسط البلد ما زال يعكس قدراً من هذا. فالزائر من خارج الأردن، يلمس فيها قدراً من الخصوصية يجتمع فيه عبق الماضي بالمحاولات الجاهدة لمواكبة العصر، مع بعض الخدمات مثل: الفنادق، والمطاعم الشعبية، والأسواق القديمة. وكذلك الأمر مع الزوار من المحافظات وبالذات من الجنوب والأغوار،حيث يشكل قلب عمان مركز جذب لقضاء الحاجات والتمتع بثمار المدينة. أما الخطأ الذي وقعت فيه الجهات الإدارية في الربع الأخير من القرن الماضي، فتمثل في النظر إلى قلب العاصمة، على أنه منطقة بين مناطق أخرى ينطبق عليها ما ينسحب على غيرها من التنظيم كالهدم والترخيص بالبناء وفتح المحال التجارية وتنظيم حركة السير. نجم عن ذلك غياب معايير لواجهات المباني ولمواد البناء فاختلت الهوية المعمارية، حيث نشأت بنايات ذات واجهات زجاجية أو بألوان متنافرة، فيما تعرف بعض العواصم باللون الغالب عليها، فتونس ومسقط تمتاز باللون الأبيض، والقاهرة باللون الوردي لمبانيها القديمة، فيما ترك للملاك في عمان اختيار ما يشاءون من تصاميم وألوان. وبينما أسهم رفع الأرمات عن الواجهات في الحد من ازدحام الكتابات، فإنه لا يلاحظ وجود خطة معتمدة للترميم مع الإبقاء على طابع المدينة، فالترميم، كما الصيانة للواجهات والمداخل، متروك لتقديرات المالكين. الاضطراب في الهوية،يدلل عليه البعض بما طرأ على وسط البلد من تغير في القوى العاملة هناك. العمالة غير الأردنية باتت مبثوثة في مرافق الخدمات وفي كل زاوية من زوايا تلك المنطقة، ويذرع أفرادها الشوارع الرئيسية والفرعية ليل نهار.. فاختلطت الألسنة والأصوات، وباتت اللهجة الأردنية الريفية والبدوية والمدينية، مجرد لهجة بين اللهجات الطاغية والمستخدمة في قلب المدينة. حدث ذلك بصورة شرعية، تحت سمع وأبصار الجهات المسؤولة في العقدين الماضيين. يُعزى ذلك إلى انسحاب العمالة المحلية التي خلفت فراغاً ملأه غيرها، وأحدثت نقصاً سده آخرون، فيحدث أن يتولى عامل مطعم صعيدي تقديم وجبة إلى أردني متعطل عن العمل، أو أن يعرض عامل من الجزيرة في سورية، الجميد لمواطن متحدثاً عن مزايا هذه السلعة. لم يكن الحال يحتاج إلى إغلاق سوق العمل أمام الوافدين، بل إلى تنظيم سوق العمل وتقديم حوافز وضمانات كافية للعمالة المحلية. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فهناك اختلاط في الأسواق القديمة منها والجديدة .على امتداد شارع رئيس مثل: شارع الملك طلال يلحظ الزائر سوقاً قديمة تحتل بضائعها الأرصفة، وفي الخلف منها أسواق حديثة للإلكترونيات .ولظروف سابقة فإن التنظيم لم ينجح ولم يخطط لتخصيص منطقة قائمة بذاتها للأسواق والسلع القديمة (داون تاون) بما يسمح بتحديد حدودها، ويمكّن الزائرين والسواح من تأمين مستلزماتهم وتلبية حاجاتهم ضمن رقعة جغرافية واحدة. تنظيم حركة السير حقق بعض النتائج مع توسعة الشوارع ومنع الانتقال من ضفة إلى أخرى، غير أن ضغط وضوضاء المركبات وما ينجم عنها من تلوث ومن انسداد المشهد أمام الرائي بقي مشكلة بلا حل. فقلب المدينة يشهد ازدحاماً طيلة ساعات النهار صيفا وشتاء. في أوقات سابقة جرى التفكير بمنع المركبات الخاصة من التوجه إلى قلب المدينة، وبينما كان الأمر وما زال يحتاج لمنع التكسي الأصفر أيضاً من دخول البلد للوفرة الهائلة في مركباته، إلا أن هذا التوجه لم يؤخذ به. فبقيت هذه المنطقة مثل مناطق عديدة أخرى أشبه بمرآب «كراج» لطوفان من مركبات متحركة. وتمتد مظاهر الضوضاء لتشمل أصوات الباعة، ويفترض أن البضائع المعروضة «تنادي» على زبائنها وتخاطب أنظارهم ومداركهم، دون حاجة لنداءات بشرية توضيحية. أما محلات الأشرطة والصوتيات، فتشكل مصدراً رهيباً للضوضاء، فكون السلعة صوتية لا يُسوّغ تشغيل نماذج منها، واحتلال المجال السمعي للمشاة وبقية التجار في الجوار. وخلافاً لأية مناطق أخرى، فإن وسط البلد يخلو من أي متنفس.تخطيط المنطقة لم يلحظ الحاجة إلى حديقة عامة صغيرة تمتص الضوضاء والتلوث، وتسمح بمجاورة أشجار ونباتات خضراء لصفوف الحجر والمركبات. المنطقة المؤهلة لذلك، وتتخذ شكل مثلث في المنطقة بين الجامع الحسيني وسوق الصاغة، نشأت عليها بناية تجارية متعددة الطبقات وتنجح هذه البناية في سد الأفق أمام الرائي، وتورث الزائر شعوراً بالضغط وقلة الحيلة. وإذ نجحت أمانة عمان قبل نحو عشر سنوات في التخلص من مكرهة صحية بإقامة مبنيين للأمانة ومركز ثقافي (مركز الحسين) مع حديقة ممتدة على الطرف الغربي من وسط البلد، فإن الأنظار تتجه إلى استكمال هذا الجزء ببناء دارة الملك عبدالله الثاني للثقافة والفنون، والالتفات إلى أجزاء أخرى من وسط البلد بمنحها نفحة جمالية وترفيهية تخفف من الضغط، وتعزز الشعور بالألفة مع المكان. الازدهار التدريجي والمطرد لقلب عمان على مدى قرن، واكب نشوء الدولة الأردنية التي اتخذت من هذا القلب مركزاً لها منذ عشرينيات القرن الماضي. وهناك من يرى أن هذا الازدهار هيأ الظروف المادية والبنية التحتية لنشوء مرافق الدولة .هذه الخصوصية التاريخية تملي إيلاء اهتمام أكبر بهذا الجزء، وإعادة الألق له مما يتطلب تخطيطاً شاملاً يراعي مختلف الحاجات والمتطلبات، ويضع حداً للنمو العشوائي. |
|
|||||||||||||