العدد 63 - أعلام
 

تتألف صورة جبران خليل جبران (1883 – 1931)، لدى معظم القراء العرب، من بعدين: فهو الأديب الذي يكتب الرواية والقصة، وهو المفكر الشاعر المشدود إلى التصوّف. غير أن هذه الصورة المبسطة تظلم الأديب اللبناني ظلماً شديداً، ذلك أنه اتخذ الكتابة الأدبية، مثل كثير من معاصريه، طريقاً إلى نشر أفكار جديدة، تنقد مظاهر التخلّف الاجتماعي وتشرح أسبابه.

كتب جبران إلى «الهلال »، العام 1919 ، السطور التالية : «إن الحكايات أو الروايات، هي التي سبّبت الانقالبات الاجتماعية والسياسية في أوروبا وأميركا، وعندي أنه يجب علينا إيقاظ هذا الميل عند الشرقيين. فالحياة القومية لا ولن تصير ذات شأن إلا بواسطة الاختلاق الفني.... ». إن وعي الأديب لرسالته، كما الأداة التي اختارها، يجعل من حكاياته دروساً في التنوير. وتعطي روايته «الأجنحة المتكسرة »، الصادرة العام 1912 ، صورة عن سياسته الكتابية التي تحتفي ب : «الواحد »، أي الفرد المبدع المنشق عن قيم الجماعة : «فكر واحد أقام الأهرام، وعاطفة واحدة خرّبت طروادة، وخاطر واحد أوجد مجد الإسلام،.... ». فالفكر الفاعل البنّاء يوجد في الأفراد لا في الجماعة. لا تتكشف دعوة جبران واضحة إلا إذا رُبطت بسياق اجتماعي «عثماني » يذيب البشر كلهم في جماعة متماثلة، ترى في التقاليد فضيلة، وفي الدعوة إلى الجديد كفراً. تميّز السياق، الذي أطلق فكرة الواحد على لسان جبران، بتحالف متين بين النخبة الدينية والنخبة الحاكمة، أو بين «المطارنة » والإقطاعيين، غايته مباركة الاستغلال والقمع بفتاوى دينية. وهذا القمع، الذي يستثمر الدين ويفرغه من معناه الإلهي، أوجد أسساً لحياة معوجة تستفيد منها قلة تتحكم بالكثرة وتنهى عن التغيير: «إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه أنفسهم من المجد والسؤدد، بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا أبناءهم في مقدمة الشعب والمستبدّين به والمستدرِّين قواه وأمواله.

وهكذا يصبح الأسقف المسيحي والإمام المسلم والكاهن البرهمي كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتص دماءها بأفواه عديدة ». نقد جبران المجتمع القائم على ولاءات صغيرة، هاجساً بمجتمع مدني يقوم على المساواة بين جميع البشر. ودفعه الاستعمال السلطوي للتعاليم الإلهية إلى رفض «الشريعة الاجتماعية ،» التي تعطي الأعراف القديمة المتوالدة صفة «القدر ». لا غرابة أن ينحو جبران إلى تصوف

خاص، يرى الإنسان على صورة إلهه، ويتأمل الجمال الواسع الذي يربط المخلوق بالخالق. ولهذا كان عدواً حاسماً للنزوعات الطائفية المختلفة، وداعية إلى دين إنساني قوامه التسامح، على مبعدة من تعاليم «الشياطين الذين ينصبّون أنفسهم أولياء على أرواح الناس ». وما كتابه الشهير «النبي »، الذي أعطاه حياته الفكرية كلها، إلا محاولة لبناء دين يأمر بالمحبة وينهى عن التعصب. ندد مشروعه بسلطة الكهنوت وبالتقاتل الديني،

وندّد أيضاً بالاستعمار الأوروبي الذي يقمع الشعوب بحجج مختلفة. بنى جبران مقولاته تحت راية الانشقاق والتمرد، ظهر هذا واضحاً في قصتين تربويتين هما : «خليل الكافر 1908( » ( التي هاجمت سلطةً تُساوي بين الكفر والمطالبة بحقوق اجتماعية متساوية ، مفترضةً أن «الكافر » هو الذي يحلم بأن تكون «الأرض ملكاً لمن يفلحها، والكروم نصيباً لمن ينقبها ويحرثها ». عبّرت صفة «الكافر » عن معنى التمرد في مجتمع يسوسه الإقطاعيون ورجال الدين، كما لو كان «المؤمن » هو الإنسان الخانع الذي يتنازل طوعاً عن حقوقه المشروعة. أما القصة الثانية فموضوعها «يوحنا المجنون » ) 1906 ( الذي ثار على كنيسة تعذّب من لا ينصاع إلى أوامرها وتقتله. تفصح صفتا «الكفر » و «الجنون » عن حقيقة سلطات شرقية أدمنت، كما يرى جبران، الكذب والمخادعة. فإذا كانت صفة «الكفر » تسوّغ تدمير الإنسان المطالب بالعدل والإنصاف، فإن الاتهام ب «الجنون » يبرّر الحجر على الجنون وردعه. والواضح، في الحالات جميعها، التدمير السلطوي لمعنى الحقيقة، بدءاً باستعمال صفتي الكفر والجنون، وصولاً إلى الاتهام بالخيانة. ترجم جبران، وهو ينشر أفكاره المتمردة، معنى الحوار بين ثقافات مختلفة، ودلالة الانسحاب من الثقافة الضيقة والانفتاح على ثقافة كونية متعددة الأبعاد. وواقع الأمر أن جبران، الذي درس الموروث الشعري العربي وقرأ المأثور الصوفي الإسلامي، انفتح على الثقافة الغربية، المتمثلة في تعاليم روسو وأفكار الثورة الفرنسية والشعر الرومانسي الألماني وكتابات الرومانسي الإنجليزي وليم بليك، وآخرين. أتاحت له ثقافته المركّبة، كما إقامته في فرنسا والولايات المتحدة، أن يقارن بين المجتمع الغربي والمجتمع الشرقي، وأن يتعرّف على أسباب تقدم أحدهما وتخلّف الآخر. وأن يؤمن، تالياً، بفكرة التقدم : «أنا من القائلين بسنة النشوء والارتقاء، وفي عرفي أن هذه السنة تتناول بمفاعيلها الكيانات المعنوية بتناولها الكائنات المحسوسة، فتنقل بالأديان والحكومات من الحسن إلى الأحسن انتقالها بالمخلوقات كافة من المناسب إلى الأنسب. فلا رجوع إلى الوارء إلا في الظاهر، ولا انحطاط إلا في السطحي... .» عبّر جبران عن ضرورة تقدم المجتمع الشرقي بعبارات غاضبة : «إن الإنسان وإن ولد حراً يظل عبداً لقساوة الشرائع التي سنها آباؤه وأجداده، وإن القضاء الذي نتوهمه سراً علوياً هو استسلام اليوم إلى مآتي الأمس، وخضوع الغد إلى ميول اليوم ». أو أن يقول: «إن الجامعة البشرية قد استسلمت سبعين قرناً إلى الشرائع الفاسدة،...، لقد توارث الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عن بعض حتى صارت عمومية،....، بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على آدم... ». ويصل به الغضب إلى ذروته حين يكتب : «وهكذا تستسلم الأمم الشرقية لى ذوي النفوس المعوجة والأخلاق الفاسدة، فتتراجع إلى الوراء، ثم تهبط إلى الحضيض، فيمر الدهر ويسحقها بأقدامه مثلما تسحق مطارق الحديد آنية الفخار.. .»صاغ جبران نسقاً فكرياً حداثياً يقوم على الفرد والتمرد، ونقد المؤسسة الدينية،والاحتفاء بالعدل والمساواة والتسامح، ونبذ العصبيات الفقيرة المتقاتلة... عبّر عن هذه المواقف جميعها في دفاعه عن حرية المرأة، وفي هجومه على أعراف شرقية ذكورية، تلغي كيانية المرأة وتحوّلها إلى سلعة قابلة للبيع والشراء. ولهذا قرأ في وضع المرأة المضطهدة أمراض المجتمع الشرقي، وجعل من وضعها مجازاً شاملاً لأحوال الأمة كلها « : أليست المرأة الضعيفة هي رمز الأمة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجعة بين ميول نفسها وقيود جسدها هي كالأمة المعذبة بين حكامها وكهّانها؟ إن المرأة من الأمة بمنزلة الشعاع من السراج، وهل يكون شعاع السراج ضئيلاً إذا لم يكن زيته شحيحاً؟ ». ليست المؤسسة الزوجية الشرقية، في هذا التحليل، إلا امتداداً لأعراف قديمة تصالح بين الاستبداد الذكوري والمصلحة غير الأخلاقية , بما يلغي المرأة ويحوّلها إلى موضوع يقرّر مصيره البائع والمشتري: «إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا. والفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائماً، أما الصبايا المتنقلات

كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن , ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زوايا المنازل حيث الظلمة والفناء البطيء.. .» ربط جبران بين تحرر المرأة و «المدنية ،» معتبراً أن تحرر المرأة هو المقياس الدقيق الذي تقاس به كل مدنية محتملة، بل إنه لا يرى تحرر المرأة الشامل إلا في مجتمع اقترب من الكمال، وأنجز «ارتقاء روحياً » نوعياً، ذلك أن انعتاق المرأة في المجتمعات المتقدمة ما زال يصطدم، حتى اليوم، بعقبات كثيرة. لا غرابة أن يقرن جبران وهو الشاعر المتأمل، بين المرأة الكاملة والمستقبل، كما لو كان تحررها الكامل شأناً من شؤون المدنية الفاضلة : «لا تخلو مدنية من امرأة ترمز بوجودها عن ابنة المستقبل ». والمقصود بالقول امرأة مثقفة تحب وتمارس حقها في الحب، وتختار من تحب وتقترن به، دون إكراه من أعراف قديمة ومؤسسات دينية تسوّغ الظلم وتبارك إزهاق روح المرأة. وامرأة كهذه لن توجد إلا في مجتمع مستقبلي، تقترحه وتبينه العقول المتمردة.

جبران خليل جبران: رفض التقاليد وحلم الإنسان الكامل
 
12-Feb-2009
 
العدد 63