العدد 63 - كتاب
 

لم تسنح ظروف العمل لكاتب هذه السطور متابعة المحاكمة الصورية لمجرمي الحرب الإسرائيليين التي نظمتها ورعتها صحيفة «الدستور .» الفكرة طيبة وخلاقة، ويراد بها بث رسالة مفادها أن مثل هذه المحاكمة ممكنة وواجبة، فأركان الجريمة قائمة، والشهود حاضرون والضحايا ماثلون، والأدلة بمختلف أشكالها متوافرة. للسهر على العدالة وكي لا تنفذ شريعة الغاب، يتعين جلب المتهمين لمحاكمتهم دون إبطاء.

ولم يكن المقصود بالطبع تنفيس الاحتقان، والاستعاضة بالمحاكاة والأداء شبه المسرحي، عن محاكمة فعلية. منذ أمد طويل أضاع الفلسطينيون

والعرب فرصة وضع المجرمين في قفص الاتهام. عواصم أوروبية منعت بعض كبار الجنرالات الإسرائيليين من زيارتها، وكادت تتم محاكمة للسفاح شارون في بروكسل. بينما تغفل عواصم عربية عن خوض هذه المعركة القانونية، ربما لانشغالها بمعارك أشد وأعظم.

أولمرت تنبه لهذا الأمر، وصرح بعد الحرب على غزة بأن حكومته سوف تفعل كل ما بوسعها، لحماية ضباطها وجنودها من أية مساءلة قانونية. المطلوب الاستجابة لهذا التحدي، فالوقف الفلسطيني والعربي أقوى من موقف الإسرائيليين، الذين يزعمون أن المقاومين اتخذوا من المدنيين «دروعاً بشرية فاضطر الجنود للفتك بهذه الدروع .»

الفلسطينيون والعرب يغفلون أيضاً، عن واجب حمل المعتدي على دفع تعويضات. لا أحد يطالب تل أبيب بأن تدفع كلفة إعادة بناء ما هدمته الحرب الإسرائيلية.. بذلك تسود على أرض الواقع معادلة قوامها إن «من حق تل أبيب أن تقتل وتدمر، ومن واجب الآخرين القيام بالإعمار ». هذا دون إغفال الاشتراطات الإسرائيلية للبدء بمهمة الإعمار، التي لم تبدأ بالمناسبة، فالإسرائيليون لا يسمحون حتى الآن بإدخال أية مواد لقطاع غزة باستثناء الأدوية والأغذية.

هناك أكثر من جهة عربية تسعى حالياً لتنظيم محاكمة للمجرمين، منها الجامعة العربية، واتحاد المحامين العرب، ووزارة العدل الفلسطينية. الخشية أن تفتر الهمة والاهتمام بعد برود الدم كما في مناسبات سابقة. وأن ينشأ تضارب يُفسد المبادرات، أو أن يتم الركون إلى جهود الآخرين، والتوقف تالياً في منتصف الطريق ثم تبادل التلاوم بعدئذ. يستحق الأمر أن يؤخذ بجدية كاملة، وأن يتمتع المبادرون بالمثابرة والنفس

الطويل. فقد تنشأ صعوبات وعراقيل ابتداء من مجلس الأمن. علماً أن كسب هذه المعركة يتم على مراحل أو دفعات. تبدأ بتظهير القضية ووضعها في دائرة الضوء، وتمر بانعقاد المحكمة، وتنتهي بإصدار أحكام قضائية. مجرد الشروع في الإجراءات يعتبر مكسباً بحد ذاته، يستحق السعي لتحقيقه، وذلك مع جمع الوثائق والوقائع وبدء التداول الإعلامي بشأنها، ونشر وبث بعضها على أوسع نطاق.

في نهاية الأمر، لا يكفي أن يكون المرء مؤمناً بعدالة قضية ما، كي تنتصر هذه القضية، فالتلاعب بالحقائق صناعة كبرى، وهناك حاجة لمن ينصب ميزان العدالة، ولمن يتشبث به بعد نصبه، وذلك هو التحدي.

محمود الريماوي: محاكمة صورية تقود لمحاكمة فعلية
 
12-Feb-2009
 
العدد 63