العدد 62 - ثقافي
 

مراجعة: مارك إل ستاين*

كتاب آيمي سنغر «بناء العمل الخيري العثماني »، دراسةٌ لمطبخ حساء هاسيكي سلطان في القدس. جوهر الكتاب دراسة شاملة للوقفيات التي أقامتها المؤسسة، والسجلات المتعلقة بإدارة المؤسسة. تضع سنغر تحليلها لهذه السجلات في إطار يشمل القضايا السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية للعمل الخيري العثماني.

أنشئت تكية هاسيكي سلطان، أو المطبخ العمومي، في خمسينيات القرن السادس عشر بوصفها وقفا تبرعت به هاسيكي هوريم سلطان، الزوجة الشهيرة للسلطان سليمان. تشير سنغر إلى أن تكية من هذا النوع كانت مؤسسة عثمانية فريدة. رغم وجود مؤسسات خيرية كانت تمولها الأوقاف قبل الحقبة العثمانية، سرعان ما أصبحت مجمعاتٌ ملحقة بالمساجد، ومدارس ومستشفيات وخانات وفنادق صغيرة، ومطابخ حساء، الشكلَ الرئيسي للعمل الخيري بالنسبة للنخب العثمانية. وكان الهدف من التكية، توفير الحساء والخبز لفقراء الحي وللمسافرين، نحو 500 شخص يوميا، ويستمر توزيع الأغذية من هذا الموقع حتى اليوم.

تقدم سنغر فصلين حول الوقفية نفسها؛ فصل قائم على قراءة متأنية لفعل الوقف، وتناقش فيه تركيبة المؤسسة، والآخر يغطي عمليات المؤسسة يوما بيوم، وتتداخل مع هذين الفصلين ثلاثة فصول أخرى تدرس القضية الأكبر لتخصيص الوقف، وعمل الخير الذي تقدمه النساء والسياسات العثمانية لشؤون الغذاء.

هدف سنغر من ترتيب كتابها بهذه الطريقة، يتيح للقراء دراسة السمات الخاصة للمؤسسة والموضوعات العامة في الوقت نفسه. الفصول الأقوى في هذا الكتاب هي تلك التي تتناول تفاصيل تأسيس التكية وإدارتها، فالدليل الموثق لتأسيس الوقف يتميز بالثراء، حيث يبدأ من فعل الوقف نفسه، وهذا في واقع الأمر أحد الأسباب التي جعلت سنغر تختار التركيز على هذه المؤسسة تحديدا. تقوم سنغر بعمل ممتاز بتقديم تحليل شامل لفعل الوقف، كما تطرح جميع جوانب الوقفية بالتفصيل: نوع مباني المجمع وعددها، والموظفون، من المدراء وحتى مساعدي الخبازين، والأراضي التي خُصص ريعها لتمويل العملية، ومن يستحق الغذاء في التكية، وحتى الوصفات التي يصنع منها الحساء والخبز الذي كان يوزَّع. تنجح سنغر في ربط هذه التفاصيل بقضايا أكبر، مثل الزراعة وحيازة الأراضي والأسواق.

الفصل الخاص بتفعيل المؤسسة لا يقل عن الفصول الأولى، من حيث اعتماده على مصادر وثائقية منوعة، حيث تقدم سنغر نقاشا واضحا

للصعوبات التي كان يواجهها مديرو التكية في تنفيذ المهام التي وضعتها لهم الوقفية. وكانت المتطلبات العملية تجعل من الصعب

المحافظة على الوقف نَصّاً. والجزء الأكثر أهمية من العمل كان ضمان الحالة المالية للمؤسسة، وكان المديرون منهمكين في إدارة الأراضي المدرّة للريع والمرتبطة بالوقف، وكذلك بالإنتاج اليومي للحساء والخبز. في هذا الفصل تستخدم سنغر سجلات أرشيفية لتقديم معنى حقيقي

لعمل مديري الوقف، والصعوبات التي كانوا يواجهونها، ولمحات عن شخصياتهم وهم يحاولون المحافظة على استمرارية المؤسسة

في صورة مناسبة. غير أن نجاح الفصول الخاصة بعملية الوقف، وفاعلات الخير العثمانيات، والسياسات الغذائية، أكثر تركيبا، فأفضل الفصول هو ذاك المخصص للوقف. يبدأ الفصل بشرح رائع وواضح ومختصر وبمقدمة عن الوقف، ثم تناقش سنغر الوقف عند العثمانيين وتفرق بين تلك التي كانت تقدمها العائلة الإمبراطورية، والتي كانت تقدمها أعداد من النخب المرموقة. كان آل عثمان، مثل السلالات المسلمة من قبلها، قد

اعتادوا على تقوية مركز الحاكم من خلال أعمال خيرية دافعها التقوى. وبتأسيس تكية هاسيكي سلطان في القرن السادس عشر، أصبح التبرع

بمثل هذه البنى العامة الكبيرة، جزءا من الثقافة الإمبراطورية العثمانية. وتظهر سنغر بمهارة، حالات الاستمرار في ممارسة عملية الوقف في

الحقبة العثمانية، وكذلك في الشكل العثماني المحدد للأوقاف.

لدى معالجتها قضية المرأة العثمانية وعمل الخير، تقدم سنغر نقاشا ساحرا لقراءة مركبة للمانحات من النساء العاملات في المؤسسات الخيرية في القدس. وقد زعم كثير من الأوروبيين ممن زاروا المدينة أن تكية هاسيكي سلطان كانت في الواقع قد أنشئت على أيدي القديسة هيلانة، والدة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين. ومن الواضح أن أعمالا خيرية من هذا النوع كانت مرتبطة بالنخب النسائية في عدد من السياقات الثقافية.

تستخدم سنغر هذه القراءة المركبة، نقطةَ انطلاق لنقاش عام للعلاقة بين العمل الخيري والمرأة في التاريخ الإسلامي. وهي تجدل عددا من الضفائر المختلفة – إسلامية، بيزنطية، تركية، منغولية – معا، منتهية مرة أخرى بالممارسات العثمانية. هذا الفصل، بما يتضمنه من جدل حول تجنيس العطاء الخيري، يثير أسئلة مهمة، لكنه بعكس الفصل المخصص للوقف، يمثل دعوة إلى مزيد من البحث، أكثر مما يقدم نظرة عامة مختصرة.

الجزء الأضعف في هذا الكتاب هو الفصل المخصص للسياسات الغذائية العثمانية، فسنغر، تجادل في أن توزيع الأغذية لإطعام الفقراء في التكايا وتوزيعه على الإنكشارية، إنما كان عنصرا رئيسيا في السياسات العثمانية لتثبيت شرعيات الأسر الحاكمة. وعلى الأغلب، فإن استنتاجاتها صائبة، وكشفها لدور التكايا في هذه العملية قوي، ونقاشها لإسطنبول الموزعة للتموين، والقصر والجيش، رغم أنه يوفر سياقا للقسم الخاص بالتكايا، إلا أنه متعجل. كما أن ذلك موضوع يستحق تدقيقا أكثر تركيزا، ونقاط الضعف المتفرقة في هذه الفصول لا تحرف أنظارنا عن نقاط النجاح في

هذا الكتاب. يقدم تركيب «العمل الخيري العثماني » مثالا جيدا على ما يمكن لدراسة متخصصة أن تكون، فقد قرأت سنغر كمّا كبيرا من المصادر

الأرشيفية بعمق، مقدّمة تحليلا ممتازا لوقف هاسيكي سلطان وتكيتها. بناء على هذه القاعدة القوية، تعالج قضايا مفهومية أوسع استوحتها من بحثها. وتثير نقاشاتها للوقف والنساء والعمل الخيري والأغذية والقوة، مزيدا من الأسئلة المهمة، وتقترح سبلا جديدة للبحث، فإن هي قصرت، في استنتاجاتها، أحيانا، عن بلوغ هدفها، فإن علينا ألاّ نلومها، لأن هدفها كان أسمى بكثير.

قسم التاريخ، كلية موهلينبيرغ، آلنتاون، بنسلفانيا. بالتعاون مع:

المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط

International Journal of Middle East Studies__

الوقفيات العثمانية في فلسطين
 
05-Feb-2009
 
العدد 62