العدد 62 - أعلام
 

فيصل دراج

ربما يكون طه حسين (1889-1973) المثقف العربي الأشهر في القرن العشرين لأكثر من سبب: فهو الريفي الأعمى الذي جعل من التعليم، بعد أن أصبح وزيراً، حقاً عاماً يشبه الماء والهواء، والشيخ الأزهري الذي نقد طرق التعليم الأزهرية، والعالم الذي جمع بين ثقافة عربية تراثية وثقافة أوروبية، وهو أيضاً المثقف الذي وضع سياسة ثقافية خاصة به، تتطلع إلى تطوير المجتمع بوسائل ثقافية.

ترجم طه حسين طموحه الحداثي في ثلاثة كتب أولها: «في الأدب الجاهلي 1925( » - 1926 ( الذي أثار لغطاً شديداً، سببه الظاهري الإساءة إلى الدين وسببه الجوهري أغراض سياسية لا علاقة لها بالدين. قصد في كتابه إلى الدفاع عن فاعلية العقل النقدي، ذلك أنه لا علم إلا بالنقد، ولا إبداع إلا باجتهاد يستوعب الموروث ويتجاوزه. ربط الكتاب بين النقد المنتج وحرية البحث العلمي، التي تملي على الباحث أن ينصرف إلى موضوعه، متجرداً من جميع الأفكار المسبقة والموروثة. لهذا قال حسين: «أريد أن أدرس تاريخ الآداب في حرية وشرف، كما يدرس صاحب العلم التطبيقي علم الحيوان والنبات، لا أخشى في هذا الدرس أي سلطان ». والمقصود بذلك احترام العلم المدروس، والتحرّر من الأهواء الفردية والجماعية، ذلك أن حرية البحث شرط تطور المعرفة.

انتهى حسين، وهو يدافع عن حرية البحث العلمي، إلى نتيجتين: موضوعية المعرفة التي لا تخضع إلى العواطف والعقائد، الأمر الذي جعله يشبّه التاريخ الأدبي بعلم الكيمياء، وكونية المنهج العلمي، التي تعني أن المناهج العلمية قابلة للتطبيق على العلوم جميعاً، في المجتمعات المختلفة. فعلم الكيمياء هو علم الكيمياء، لا تبدّله العقائد ولا سلطة لها عليه، إلاّ إذا أرادت تدميره وإلغاءه. وكما هو الحال في الكيمياء حلم حسين ببناء علم التاريخ على أسس جديدة، تقرأ التاريخ العربي بشكل موضوعي وتميّز فيه الوقائع الصحيحة من القصص والأساطير. في دعوته إلى بحث علمي متحرر من الأهواء، رفض طه حسين كل معتقد يعطي ذاته صفة «علم العلوم »، ويُعدّ ما خارجه علوماً تابعة خاضعة لا شخصية لها. ولعل الفرق بين الإبداع الحر والعبودية الفكرية هو الذي أملى عليه أن يقول: «إنما أريد أن أحدثك عن هذه الحرية التي يطمح فيها كل علم ناشئ ليستطيع أن يقوى وينمو ويأخذ بحظه من الحياة، هذه الحرية التي تمكنه من أن ينظر إلى نفسه كأنه كائن موجود، ووحدة مستقلة ليس مديناً بحياته لعلوم أخرى... ». والواضح في القول إن كل علم حقيقي هو «علم مفرد » يتأثر بغيره ويبقى «وحدة مستقلة »، ويتبادل مع غيره الاعتراف، مدركاً أن لكل علمٍ حيزاً خاصاً به. فكما أن لعلم التاريخ حقلاً خاصاً لا يتقاسمه مع غيره، فإن لعلوم الدين ميادينها ومناهجها واجتهاداتها أيضاً. لا غرابة أن يكون «الفرد المستقل بذاته » مدخلاً إلى الأزمنة الحديثة، وأن يكون «العلم المزدهر » علماً واضح الحدود لا يختصر إلى غيره. بعد «في الأدب الجاهلي »، أنجز حسين في العام 1938 ، كتاباً خلافياً آخر هو : «مستقبل الثقافة في مصر »، المشروع الحداثي العربي الأكثر تكاملاً في القرن العشرين. وإذا كان الكتاب الأول أثار لغطاً كثيراً، حرّض عليه تسييس الدين أو تديين السياسة، فقد أثار الكتاب الثاني ضجة أخرى صدرت، هذه المرة، عن دعاة الفكر القومي )ساطع الحصري(، ذلك أن حسين عيّن مصر دولة متوسطية، وعيّن البحر الأبيض المتوسط حاضنة للحضارة الأوروبية، منتهياً إلى القول إن مستقبل مصر من مستقبل أوروبا الحديثة. ومع أن «متوسطية مصر »، التي خصص لها المؤلف مقدمة واسعة، هي أضعف وجوه الكتاب، فإن أهميته الحاسمة تأتي من دعوته إلى عروة وثقى بين نشر التعليم ونشر الديمقراطية، اللذين هما شرط الحياة السياسية المجتمعية، بالمعنى الحديث، فلا وجود لحياة سياسية في مجتمع تكتسحه الأمية، ولا معنى لمحاربة الأمية في مجتمع يكتسحه الاستبداد. يتضمن كتاب «مستقبل الثقافة في مصر » أفكاراً ثلاث رئيسية: الحاجة الوطنية، العلم الوطني، الحداثة الاجتماعية. والحاجة الوطنية، بصيغة الجمع، ما يمد الوطن بوسائل ملموسة تؤمّن ارتقاءه وتوطّد تطوره، وتجعله قادراً على مواجهة حاجاته الداخلية المتنوعة ومواجهة الأخطار الخارجية المحدّقة به. ومهما تكن الدلالات الصادرة عن كلمة «الحاجة ،» فهي تردّ دائماً إلى إنسان يحقق طموحاته الفردية والوطنية، وإلى موطن يتمتع بحقوق المواطنة، الاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية. إن صورة الوطن من صور المواطنين الذين ينتمون إليه، مثلما أن صورة المواطن من حقوقه الوطنية التي يتمتع بها.

يقول طه حسين: «الرجل الذليل المهين لا يستطيع أن ينتج إلا ذلاً وهواناً، والرجل الذي نشأ على الخنوع والاستعباد لا يمكن أن ينتج حرية واستقلالاً .» قرأ حسين طبيعة الإنسان في طبيعة تربيته الاجتماعية، وحلم بتربية جديدة تعلّم الإنسان القراءة والسياسة والحرية، وتعلمه أن

له حقوقاً تعترف بها الشعوب المتقدّمة : «إذا تعلم أبناء الشعب عرفوا ما لهم من حق في حياتهم الداخلية فلم يسمحوا لقلة مهما تكن أن تظلم الكثرة، وعرفوا ما لهم من حق في حياتهم الخارجية فلم يسمحوا لدولة مهما تكن أن تظلم مصر أو تستذلها ». لا يصدر الاستقلال عن خروج الاستعمار، بل عن إنسان عزيز يميّز بين الحرية والاستعباد، وعن وطن مستقل، يساوي بين الاستقلال الوطني والحرية الاجتماعية. بل أن استقلالاً لا يحقق تقدم المجتمع هو أكثر سوءاً من الاستعمار بكثير، كما يقول حسين في مقدمة كتابه. ومع أن حسين أسهب في الحديث عن التعليم وبرامجه مستوياته وسياساته، فالفكرة الأهم في خطابه هي «العلم الوطني ،» الذي يربط بين العلم وحاجات الوطن، وبين العلم النظري والعلم التطبيقي، وبين تجدّد البحث العلمي وتجدّد الحاجات الاجتماعية. هذه العناصر، التي توحّد بين النظري والعملي، هي أساس «توطين المعرفة العلمية »، التي تنقض ثنائية التلقين والاستظهار في المدارس التقليدية، وتحوّل العلم إلى علاقة اجتماعية فاعلة ومتجدّدة. تربط الحاجة الوطنية بين المدرسة والاقتصاد، وتجعل من الحياة العملية مرجعاً للبرامج المدرسية والإصلاح المدرسي. وصل حسين إلى ما وصل إليه وهو يتأمل تجارب «الأمم الراقية »، كما يقول، التي وحّدت بين نشر العلم والديمقراطية، وبرهنت أن هاتين العلاقتين المتكاملتين مدخل أساسي إلى الحداثة الاجتماعية. والحداثة هذه، وبعيداً عن منظور عربي شائع اليوم يختصرها إلى ألوان الكتابة والفنون، نهج في الحياة يتكامل فيه الفكر والممارسة، ومرآة لمجتمع متطور يجمع بين الحياة السياسية والديمقراطية وتأمين شروط الحياة والعمل. يقول حسين : «إن النظام الديمقراطي يجب أن يكفل لأبناء الشعب جميعاً الحياة والحرية والسلام « ،» ولأجل أن تكفل الديمقراطية للناس الحياة، يجب قبل كل شيء أن تكفل لهم القدرة على الحياة .» ومن الطبيعي أن الحياة التي يجب أن تكفلها الديمقراطية للناس هي الحياة القابلة للتطور والرقي من الناحيتين المادية والمعنوية. وعلى هذا فإن الحداثة الاجتماعية التي اقترحها طه حسين هي تلك التي تجمع بين وجوه الحياة المختلفة، وتتخذ من الديمقراطية مرجعاً أساسياً في التعليم والسياسة ونمط الحياة وفرص العمل. تطلع المؤلف، في لغة تربوية تقريرية، إلى الارتقاء بالمواطن ، ليت عرّف على حقوقه ونقائضها ، وإلى تقصير المسافة بين الشعب و ا لنخبة الحاكمة، وإلى تأكيد المجتمع المسيّس مرجعاً للإرادة الوطنية العامة. استولد حسين، متأثراً بأفكار الثورة الفرنسية، المجتمع الحديث من المدرسة الديمقراطية، واستولد المدرسة من دولة حديثة تؤمن بالدستور وحقوق الإنسان والقيم الكونية. بعد معالجة موضوع الحرية والبحث العلمي واقتراح مشروع لبناء مجتمع حداثي، طالب حسين في كتابه «الفتنة الكبرى 1947( » ( بمنهج جديد يقرأ التاريخ العربي الإسلامي قراءة موضوعية، تحرّره من أساطيره وتحرّر الحاضر منه، وتجعله بعد نقده قوة فاعلة في بناء مستقل جديد. قصد في كتابه إلى أهداف ثلاثة: تبيان أن هذا التاريخ تاريخ إنساني غير مقدس، حاله حال تواريخ بقية الأمم والشعوب، وأنه قابل للقراءة بمعايير عقلانية لا تضيف إليه شيئاً ولا تغمطه حقه في شيء، وأن في التراث العربي ما يسمح بهذه القراءة الموضوعية. أنجز في الحالات جميعاً قراءة عقلانية، اعتماداً على مصادر تراثية قليلة، مسلحاً بحس نقدي يفصل بين المقدس والمقدس الزائف، ويقارن بين التاريخ المعقول وتاريخ متخيّل فرضته أهواء دينية وسياسية، تستثمر المقدس لحجب شرعية ناقصة. استأنف حسين في «الفتنة الكبرى » ما بدأه في كتابه «في الأدب الجاهلي » معلناً أن «علم التاريخ العربي » لا وجود له، وما هو موجود جملة «مواد أولية » لا تستبقي

المقارنة المنهجية منها إلا قليل القليل. وعلم التاريخ المنشود ضرورة للتحرر من «الانبهار بالماضي »، وللبرهنة أن الأحفاد المتعلّمين يمكن أن يتفوقوا على أسلافهم، وأن الماضي يُقرأ بعلم من الحاضر، بعيداً عن هؤلاء الذين يختصرون الأزمنة جميعاً إلى زمن مقدس قديم.أقام حسين خطابه على التمرّد والانشقاق، إذ الفرد المتمرّد ينشق عن الجماعة، وإذ العقل النقدي ينشق عن العقل الاتباعي. وما كتابه الشهير «الأيام » إلاّ حكاية تربوية عن إنسان متمرّد، أتى من القرية ووصل إلى المدينة، وتعلّم في الأزهر وذهب إلى الجامعة، وعرف حكايات أبي زيد الهلالي وانفتح على «ديكارت » والمعارف الحديثة، التي حررت الشعوب الحيّة من أوهام الماضي وأطلقت إمكانياتها المبدعة.

طه حسين: الاحتكام للعقل والحداثة الاجتماعية
 
05-Feb-2009
 
العدد 62