العدد 62 - الملف
 

محمد علاونة

حالة الاستقرار التي عاشها الأردن سياسيا في أواخر التسعينيات بعد هدوء العاصفة التي أثارها احتلال القوات العراقية للكويت، بتحرير

الأخيرة العام 1991 ، وتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل في العام 1994 ، ساهمت، إلى حد كبير، في الالتفات إلى الوضع الاقتصادي

الداخلي.

تبني سياسة اقتصادية تحررية، والاندماج في الاقتصاد العالمي، قابلته تحديات توقيع الأردن اتفاقيات عالمية فرضت تحرير السوق،

لكن أول تحول جذري شهده الأردن في هذا الاتجاه، كان مع اعتلاء الملك عبد الله الثاني العرش في شباط/فبراير العام 1999 .

تجسد ذلك التوجه في الإعلان عن انتهاء عملية التفاوض مع منظمة التجارة العالمية في أواخر العام 1999 ، وموافقة المجلس

العام للمنظمة على انضمام الأردن إليها في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، ما خلق إرباكاً في الأسواق التي لم تكن مستعدة

للتعامل بآليات العرض والطلب، وبعد عام من إلغاء وزارة التموين.

في الثالث عشر من كانون الأول/ديسمبر 1999 ، أصدر الملك مرسوماً عيّن بموجبه 20 عضواً، معظمهم من القطاع الخاص، في

المجلس الاستشاري الاقتصادي لمراقبة تطبيق الإصلاحات الحيوية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والإدارية، وذلك بهدف

مواجهة تحديات العولمة. وتبع ذلك السماح بالاستثمار الأجنبي في عدد من القطاعات، بموجب قانون جديد للاستثمار يمنح حوافز بنسبة 100 في المئة للمستثمر الأجنبي، ومن بين هذه القطاعات: خدمات الحاسوب والاستشارات الإدارية والبحث والتطوير والفنادق وشركات توريد الطعام

والمصارف وشركات التأمين وشركات الخدمات المالية وشركات مزودي الإنترنت وإنتاج أفلام السينما والفيديو ودور السينما وغيرها.

في العام التالي شهد الملك والرئيس الأميركي بيل كلينتون حفل توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الأردن والولايات المتحدة في

24 تشرين الأول/أكتوبر العام 2000 ، وغالبا ما ارتبط التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة الأميركية بالمساعدات المقدمة من واشنطن

للمملكة. وخلال زيارة الملك إلى الولايات المتحدة الأميركية في 28 أيلول/ سبتمبر 2001 وقع الرئيس الأميركي جورج بوش القانون المتعلق

بهذه الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ في 17 كانون الأول/يناير 2001 . وتعتبر هذه الاتفاقية تاريخية، من حيث أنها كانت رابع اتفاقية تجارة حرة ثنائية تعقدها الولايات المتحدة، بعد عقدها مع كل من المكسيك وكندا وإسرائيل، وهي أول اتفاقية تجارة حرة تعقدها الولايات المتحدة

مع دولة عربية، كما أنها أول اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة تتضمن التزامات تتعلق بالعمالة والبيئة.

لكن الاتفاقيات الدولية مع الدول الأجنبية حالت دون تفعيل اتفاقية التجارة الحرة العربية الكبرى التي سبقت الدولية، عندما وقع الأردن مع أربعة عشر بلداً عربيا اتفاقية التجارة العربية الحرة الكبرى والتي بدأ العمل بها العام 1998 . عدم التفعيل جاء بسبب خلافات تجارية برزت لعدم اعتماد قواعد منشأ تفضيلية موحدة بين الدول العربية، واستكمال توحيد المواصفات العربية للسلع، والتزام الدول العربية بتبني هذه المواصفات، ومازالت سلع أردنية مثل الأدوية تواجه صعوبات في تسجيلها في أسواق عربية منها مصر. أما الاتفاقية مع الولايات المتحدة الأميركية،

فساهمت بتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، خصوصا بين الشركات الأردنية والأميركية، وفي نهاية العام 2002 ، ارتفع حجم الصادرات

الأردنية إلى الولايات المتحدة إلى 363 مليون دولار، من 13 مليون دولار العام 1999 ، حسبما أشارت أرقام صادرة عن دائرة الإحصاءات العامة.

تطلب توقيع الأردن لاتفاقيات اقتصادية دولية وجود برنامج اقتصادي وطني داخلي لتسهيل تنفيذ تلك الاتفاقيات، فقام الملك بتوجيه رسالة إلى الحكومة في العام 2001 ، أكد فيها أن الوقت قد حان لإعداد برنامج للتحول الاقتصادي والاجتماعي، يركز على الاستثمار في الإصلاحات والسياسات والبرامج التي تم الحصول على إجماع وطني عليها في الملتقيين الاقتصاديين الوطنيين الأول والثاني، وذلك كان ضرورة لمواجهة تحديات اقتصادية قادمة. العام 2002 قدمت الحكومة برنامجا عرف باسم برنامج التحول الاقتصادي والاجتماعي، انطلق العمل به في العام نفسه، وهو يركز على تنفيذ سياسات وبرامج إصلاحية، لكن البرنامج لم يحقق نجاحا بموازاة الاندماج في الاقتصاد العالمي.

واقتصر على تعديلات لقوانين لغايات تحقيق فلسفة الاستثمار في عمليات الإصلاح التي تساعد على الوصول إلى التنمية المستدامة، وبخاصة الاستثمار في تعليم وتدريب المواطنين وفي تنفيذ الإصلاحات المالية والإدارية والقضائية، وكذلك في تحسين الخدمات الحكومية الأساسية المقدمة للمواطنين، وبخاصة في المناطق النائية، مع التركيز على قطاعات الصحة والمياه والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وتنمية المحافظات ومحاربة الفقر والبطالة بمنهجية قائمة على مبدأ تعزيز الإنتاجية.

رغم التصورات الواضحة، حالت البيروقراطية التي نمت على مدار الأعوام السابقة، وبطء التنفيذ دون تحقيق إصلاحات حقيقية واقتصرت على، تعزيز الاحتياطيات من العملات الصعبة. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1999 دعا الملك ما يزيد على 160 ممثلاً للقطاعين العام والخاص للاجتماع في فندق موفنبك البحر الميت في خلوة اقتصادية دامت يومين لتعزيز العلاقة بين هذين القطاعين. وقد اختتم ممثلو القطاعين العام والخاص اجتماعهم بإصدار وثيقة من 13 صفحة تبين المسائل الأساسية التي تحتاج إلى معالجة لتحقيق التنمية المستدامة المطلوبة، وقد

شملت التوصيات سياسة تحرر وتحديث اقتصادي، تصاحبها إصلاحات مالية وقضائية. وأوصى المشاركون، لتطبيق هذه السياسات، بأن يشكل الملك مجلساً استشارياً تحت رعايته يضم ممثلين عن القطاعين العام والخاص.

وقد تم تطبيق التوصيات بسرعة، وأمر الملك بتشكيل المجلس الاستشاري الاقتصادي الذي أخذ يعمل عن طريق تشكيل لجان كانت في حالات عدة برئاسة شخصيات من القطاع الخاص تحظى بالدعم التام من الحكومة؛ إما من خلال المشاركة المباشرة أو عن طريق تسهيل أبحاثهم.

كما شكلت لجان لمعالجة قضايا متنوعة منها: تعزيز دور البنوك في التطوير الاقتصادي، وتحويل العقبة منطقة اقتصادية خاصة، ووضع

استراتيجية لرعاية القطاع السياحي. وتمخضت هذه المشاركة والتعاون عن نتائج إيجابية، تمثلت في تخفيض نسبة الدين الخارجي من 81.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 74.7 في المئة خلال سنة واحدة، وتخفيض نسبة العجز في الموازنة من 6.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 6.3 في المئة. وفيما يتعلق بزيادة مساهمة المؤسسات المالية في جهود التطوير الاقتصادي، تم تعديل القوانين للسماح للبنوك بقبول المعاملات الإلكترونية، ما حدا بالبنوك إلى عرض خدماتها على الشبكة. وأدى إلغاء القوانين القديمة إلى إزالة حواجز من طريق التمويل طويل الأجل، ما خفض متطلبات الحد الأدنى للإيداع في البنك المركزي من 12 في المئة إلى 8 في المئة. كما حققت الإصلاحات المالية أيضاً نتائج

إيجابية: فقد تم تعديل قوانين عدة ما خلق بيئة استثمارية صحية مقرونة بأساليب تحصيل عامة أكثر كفاءة مثل: تعديلات قانون ضريبة الدخل وقانون الطوابع والرسوم، وقانون الدين العام، وقوانين عديدة أخرى. وبالنسبة للسياحة زادت موازنة تسويق السياحة في المواقع السياحية في المملكة زيادة ملحوظة، واتخذت الإجراءات لتمكين السياح من الحصول على تأشيرات الدخول في المطارات ونقاط الحدود الأخرى. وسن عدد كبير من القوانين المشجعة للاستثمار بمساهمة تامة من القطاع الخاص على أساس ممارسات تجارية حديثة ومنطقية، وشملت هذه القوانين قانون ضريبة الدخل وقانون الطوابع والرسوم، وقانوناً يسمح للبنوك بالتعامل إلكترونياً، وقانوناً للوكلاء والوسطاء والتجار، وقانوناً حديثاً للدين العام يوفر مرونة لأسواق رأس المال، وقانوناً للضمان الاجتماعي ارتفعت بموجبه رواتب المتقاعدين وتعويضاتهم، وقانوناً جديداً للمستأجرين.

وتبنت الحكومة مبادرة الحكومة الإلكترونية وتم إطلاق مشاريع أولية في تسع مؤسسات حكومية، وهناك مؤسسات مثل أمانة عمان ودائرة الأراضي والمساحة بدأت فعلاً بتقديم خدماتها إلكترونياً، وأدت السياسات الإدارية والمالية الحكيمة إلى ازدياد عدد مستخدمي شبكة الإنترنت مع خفض تكلفة الاستخدام. وفي سوق رأس المال تمت «أتمتة » سوق عمان المالي وعقدت اتفاقية بين سوق عمان المالي والأسواق المالية في البحرين ودبي لإنشاء سوق مالي مشترك لشركات تكنولوجيا المعلومات وشركات الإعلام، وبدأت البنوك بإنشاء صناديق مالية مشتركة ويجري الآن تطوير هيئات تجارية واستثمارية.

التحدي الأكبر جاء من حقيقة أن الأسواق لم تعد مغلقة وأسعار السلع تركت لأدوات العرض والطلب، وكانت وزارة التموين قد ألغيت قبل اعتلاء الملك العرش بشهور، إذ إنها ألغيت العام 1998 ، لتصبح وزارة الصناعة والتجارة الخلف القانوني لها، والمكلف بالقيام بواجباتها. وسرعان ما تحول الأردن إلى موطئ قدم للاستثمارات الخارجية، وبخاصة بعد تعديل قانون تشجيع الاستثمار في العام 2006 ، ليزيل ما تبقى من عوائق أمام المستثمر الأجنبي، مثل تعدد المرجعية أمام المستثمر التي وحدها القانون وحصرها في وزارة الصناعة والتجارة. وشهد عهد الملك عبد الله آخر 5 سنوات من برنامج التصحيح الاقتصادي، الذي بدأ الأردن في تطبيقه لمواجهة صعوبات اقتصادية حادة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، مع هبوط معدلات النمو، وانخفاض قيمة الدينار، وقد تخرج الأردن من البرنامج في العام 2004 . وما إن استعد الأردن، مسلحا بأدوات اقتصادية ايجابية، للاندماج في الاقتصاد العالمي، حتى جاء احتلال الولايات المتحدة الأميركية للعراق، وهو ما دفع المملكة نحو منعطف جديد، فقد تسبب الغزو في فقد السوق العراقية التي كانت تحتل المرتبة الأولى من حيث التبادل التجاري مع الأردن بين الدول العربية، كما فقدت المملكة منحة نفطية مجانية كان يقدمها الرئيس العراقي السابق صدام حسين، بقيمة 300 مليون دولار سنويا، فضلا عن احتساب ما تبقى من احتياجات الأردن

النفطية التي كان يحصل عليها كلها من العراق بأسعار تفضيلية.

وكانت النتيجة أن الأردن أصبح يتحمل أكلاف الفاتورة النفطية كاملة، وفاقم الأمر أن الأردن كان يخضع لضغوطات من صندوق النقد الدولي لتحرير أسعار المشتقات النفطية، وهو القرار الذي التزم بتطبيقه في شباط/ فبراير العام 2004 ، حين بدأ خطوات رفع الدعم عن هذه الأسعار في شكل تدريجي حتى أزيل الدعم عن المشتقات النفطية نهائيا وتحرير قطاع الطاقة تحريراً كاملاً في شهر آذار/مارس من العام 2008 ، باستثناء سعر أسطوانة الغاز الذي بقي كما هو، حتى الشهر الماضي حين انخفض بواقع ربع دينار للأسطوانة الواحدة.

الاقتصاد في عهد الملك عبد الله: سياسات افنتاحية تشجع الاستثمار وترفع الدعم
 
05-Feb-2009
 
العدد 62