العدد 62 - الملف | ||||||||||||||
نهاد الجريري لم تكن صلاحيات الحكومات الأردنية وولايتها الدستورية مثار جدل كما مثلما كانت في الأعوام العشرة الأخيرة، أي في العقد الأول من حكم الملك عبد الله الثاني؛ إذ زاد الحديث عن وجود مؤسسات "موازية" للحكومة "تتغول" على صلاحياتها في صورة غير مسبوقة، حتى ذهب البعض إلى حد القول إن ذلك "أسلوب جديد في الإدارة". جواد العناني نائب رئيس وزراء ورئيس الديوان الملكي الأسبق، يرى أن المؤسسات الموازية في حد ذاتها ليست بالأمر الجديد على سياسة الحكم في الأردن. فقد شهدت المملكة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ظهور مثل هذه المؤسسات لشعور بأن "مؤسسات الوزارة لم تكن قادرة على أداء مهام معينة". ومن هذه مؤسسات الإقراض المتخصصة مثل الإنماء الصناعي، والإقراض الزراعي، وصندوق تنمية البلديات والقرى، وحتى بنك الإسكان قبل أن يتحول إلى بنك تجاري. إلا أن هذه المؤسسات ظلت بحسبه "ضمن الإدارة التنفيذية للحكومة" بصفتها صاحبة الولاية العامة. ويوضح العناني أن بعضها كان بالفعل يتمتع باستقلال مالي وإداري وغير خاضع للموازنة العامة، لكنها كانت دائما مرتبطة برئيس الحكومة أو أحد وزرائه. أما في عهد الملك عبد الله، فيلحظ العناني ظهور مؤسسات أسماها "فوق الحكومة"، تتميز بارتباطها بالملك مباشرة بصفته رئيس السلطة التنفيذية، وتنسب له مباشرة دون الرجوع إلى الحكومة. ويزيد أن مؤسسة مثل الديوان الملكي صارت "تطبخ" القرارات وترسلها للحكومة للتأشير عليها ثم تعيدها إلى الملك. والأصل في هذه المؤسسات أنها وجدت كي "تفعل" آليات اتخاذ القرارات من دون تلكؤ وتزيد من فعاليتها لسيادة شعور بأن الحكومات ظلت عاجزة عن اتخاذ قرارات في مجالات معينة مثل الإصلاح الإداري، بالرغم من "إلحاح" الملك عليها. ولا يعفي العناني الوزراء من المسؤولية، فهو يؤكد أن الوزراء "قصروا" في أداء واجباتهم وممارسة صلاحياتهم وتحولوا من "سياسيين يضعون سياسات وزاراتهم ويصنعون فيها القرار إلى مجرد منفذين"، وهذا غير كاف، يضيف العناني. وبالفعل، فالملك عبد الله في بداية حكمه كثيرا ما كان يتردد على المستشفيات ودوائر الدولة، ويأمر بإصلاحات ليعود ويجد الأمور على حالها. وليس هناك ما هو أشهر من مصعد مستشفى البشير. شخصية مقربة من البلاط تروي أن الملك وقتها انتقد المسؤولين أمام مصعد مستشفى البشير لإخفاقهم في إصلاحه بالرغم من حديثه المتكرر عنه. في المقابل، لا شك في أن طريقة حكم الملك عبد الله جاءت مختلفة بعض الشيء عن عهد والده الملك الحسين الذي لم يكن يهتم كثيرا بالتفاصيل، وبخاصة في الموضوع الاقتصادي الداخلي، "فقد كان جل اهتمامه منصبا على حماية الأردن من الأخطار الخارجية". مقال سابق نشر في العدد 46 من ے بتاريخ 15/10/2008، نقل عن الصحفي السعودي عبد الوهاب الفايز قوله إن "الملك عبد الله، ومنذ اليوم الأول لتسلمه سدة الحكم، بدا معنيا، إلى حد كبير، بالشأن الاقتصادي، وظل هاجسه الدائم مواجهة البطالة والتصدي للفقر وجيوبه". ويخلص المقال إلى أن هذا الأمر، بالإضافة إلى "تلكؤ" الحكومات في تنفيذ التوجهات الملكية، و"عجزها" عن مواكبة تطلعات الملك، أدى إلى "تداخل في الصلاحيات بين الأجهزة الحكومية". الكاتب والمحلل السياسي، محمد أبو رمان يرى أنه في عهد الملك عبد الله حدث "تضخم" لمؤسسات، مثل الديوان الملكي، على حساب المؤسسات "البيروقراطية"، فخلقت ما يعرف بحكومة الظل أو shadow government، والأصل أن هذا كان يهدف إلى تسريع التحديث وتحويل الحكومة إلى أداة تنفيذية، بالإضافة إلى الرقابة على الحكومة في ظل ضعف الدور الرقابي للبرلمان. لكن هذا خلق في الوقت نفسه معضلة تداخل الصلاحيات بين المؤسسة الأمنية والديوان والحكومة، كما خلق "أزمة في تعدد المرجعيات". ولا شك في أن الحكومة كانت الحلقة الأضعف في هذا كله. وهو ما يبرهن عليه اليوم باستحداث مؤسسات موازية بالإضافة إلى الديوان، فهناك منطقة العقبة الخاصة، والمناطق التنموية ومؤسسة تشجيع الاستثمار، ومبادرات مثل كلنا الأردن والأردن أولا. وفي هذا الإطار يمكن وضع ما شهدته الفترة الأخيرة لحكومة علي أبو الراغب من تركز الثقل السياسي الأهم والأقوى في الديوان الملكي والمخابرات العامة وليس في الحكومة. المفارقة أن أبو الراغب نفسه سحب مجموعة مهمة من الصلاحيات التي كانت تقع ضمن الولاية العامة الدستورية لحكومة عبد الرؤوف الروابدة، أول حكومة في عهد الملك عبد الله. في ذلك الوقت كان أبو الراغب رئيسا للجنة المكلفة إقامة المنطقة الاقتصادية الخاصة في مدينة العقبة، وهو المشروع الذي يعتقد كثيرون أنه تسبب في إقالة الروابدة وتعيين أبو الراغب رئيسا للوزراء. وجود هذه المؤسسات في حد ذاته لا يؤشر على خلل. بسام بدارين، مدير مكتب صحيفة القدس العربي في عمان، يرى أن الدول المتحضرة والديمقراطية تلجأ إلى مؤسسات "ظل" لتكون "مطبخا استراتيجيا" يزود الدولة بالنصائح. لكنه يلحظ أن التجربة الأردنية في هذا المجال لم تنجح وذلك لأن الأفراد القائمين على بعض هذه المؤسسات دخلوا في صراع مع التنفيذيين في الدولة بدلا من أن يرفدوهم بالنصح والمعرفة. ويرى الصحفي والمحلل السياسي فهد الخيطان أن بعض الشخصيات استغلت موقعها في هذه المؤسسات الموازية و"استخدمت التوجيهات الملكية بتوسع أكثر من اللازم، واستثمرتها فيما هو أبعد من أهدافها". ويلفت الخيطان إلى أن الملك شدد أكثر من مرة على ضرورة الترتيب مع الحكومة، لكن هذه المؤسسات "تجاوزت" هذه الحدود و "خلقت سلطات بديلة"، الأمر الذي تسبب في إشكاليات كبيرة في الدولة. وهو ما شهدناه في الفترة الأخيرة من اصطدام مؤسسة الديوان مثلا مع النواب والأعيان وحتى القوى الحزبية في البلد. عموما، يرى الخيطان أن حكومة نادر الذهبي خرجت ناجحة من هذه المعضلة، واستطاعت أن تستعيد بعضا من صلاحياتها الدستورية، وربما كان في ذلك إشارة إلى إقالة باسم عوض الله رئيس الديوان من منصبه نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، وهو الذي أثار جدلا حول صلاحيات "مكتب الملك" لم تألفه الحياة السياسية الأردنية من قبل. الطرف الآخر من هذا الجدل تمثل في دائرة المخابرات؛ إذ تعاظم دورها في عهد الملك عبد الله وتعدى الشؤون الأمنية إلى السياسية، وحتى التعيينات في وظائف متقدمة في الدولة، حسبما يرى سياسي مخضرم أمضى فترة طويلة في الديوان الملكي، وفضل عدم ذكر اسمه لحساسية موقعه. ويذهب الرجل إلى أن مدير المخابرات السابق، محمد الذهبي، قام بنفسه بقيادة معركة الصيف الماضي غير المسبوقة ضد عوض الله بهدف إقالته من منصبه. وجاء ناصر اللوزي، خلفا لعوض الله في رئاسة الديوان. اللوزي، بحسب مقربين منه، قد يتمكن من تحقيق التوازن في العلاقة مع الحكومة إذا "قام بترجمة الرؤية الملكية إلى مبادرات، وسلمها للحكومة والأجهزة الأخرى لتنفيذها بدلا من قيامه هو بذلك". في هذا المجال، شهدت البلاد في الفترة الأخيرة أمرا محيرا، فقد أعلن وزير الداخلية عيد الفايز، في مقابلة مع صحيفة "العرب اليوم" نشرتها في 25/1/2009، عن تفعيل قانون الاجتماعات العامة وتقييد المظاهرات والمسيرات، وهو ما رأت فيه أوساط صحفية "نهاية شهر العسل" بين الإسلاميين والحكومة، ولكن لم تمض على ذلك ثلاثة أيام، حتى أعلن عن أن اللوزي التقى وفدا من الحركة الإسلامية ضم نوابا وقادة في حزب جبهة العمل الإسلامي، ما يشير إلى عكس الاستنتاج الأول تماما، وهو ما يضع علامة استفهام جديدة على صلاحيات الحكومة وحدود المؤسسات الموازية لها وعلى رأسها الديوان. |
|
|||||||||||||