العدد 62 - اقليمي
 

سليم القانوني

ما إن وضعت الحرب على غزة أوزارها يوم السابع عشر من كانون الثاني/ يناير الماضي، وخرج الأهالي الأحياء يتفقدون بيوتهم وما تبقى من أحبة أحياء ومن متاع قليل. حتى سارعت قيادات إسرائيلية واخرى من حركة حماس، لاحتساب نتيجة الحرب نصراً خالصاً لها. وقد لوحظ في الأثناء تباين داخلي بين الجانبين، في تقليب النتيجة والحكم عليها. الإسرائيليون الذين يستعدون لانتخاباتهم وكانت الحرب جزءاً من الحملة الانتخابية، أظهروا خلافات حول التقييم إذ شدد اليمين الأشد تطرفاً على أن الحرب «لم تحقق كامل أهدافها، وما كان ينبغي ان تتوقف في

منتصف الطريق »، وهو الرأي الذي يرفعه نتنياهو زعيم الليكود، المنافس الرئيس لكاديما. الصحافة الإسرائيلية أظهرت

الخلافات، لكن أعين الجميع كانت مشدودة إلى الاستحقاق الانتخابي )المبكر( باعتباره الفيصل في حسم الخلافات. الأمر كان مختلفاً على الجانب الفلسطيني. ليست هناك صحافة حرة في غزة، وبدرجة أقل، فإن الصحافة الفلسطينية تشكو بدورها من ضيق هامش الحرية. فلم يتم اللجوء إلى هذه المنابر لإدارة حوار مسؤول في مناخ صحي. وبقية المؤسسات ومنها المجلس التشريعي فهي إما معطلة أو مدمرة بفعل حرب «الرصاص المسكوب ،» فلا مجال لاستعراض وقراءة دروس الحرب. وبقي الظن بعدئذ أن أجواء التوحد الميداني للفصائل في مواجهة الحرب، وتحسس مأساة المدنيين، سوف تدفع للارتقاء بشعور المسؤولية وتهيء فرصة جدية لحوار مثمر. لم يحدث شيء من ذلك، وبخاصة لدى الطرف الذي يحكم قبضته على بقايا القطاع. فسرعان ما ظهر خطاب إعلامي يعتبر أصحابه أنهم حققوا نصراً ليس على الاحتلال فحسب، بل على فصائل أخرى، ثم على منظمة التحرير. وجرى تصنيف الدعوات إلى الحوار نحو المصالحة والمشاركة، على أنها دعوات «عاطفية » و «ليس هذا وقتها ». فالوقت الراهن هو للاحتفال بالنصر و «الاستثمار السياسي » له.حدث خلال ذلك ما هو أسوأ: لقد جرى استهداف مقاتلين في اليوم التالي لوقف إطلاق النار. وتم خلط متعمد بين اكتشاف عملاء نشطوا في أثناء الحرب، وبين مقاتلين من تنظيمات أخرى وبالذات من حركة فتح. منظمات حقوقية منها «مركز الميزان لحقوق الإنسان »، ذكرت أنه حتى العملاء والجواسيس «يستحقون محاكمة عادلة لا التعامل مع المشبوهين المفترضين بأسلوب التصفيات ». وهنا ثارت شبهات قوية حول تصفيات سياسية )تندرج حكماً ووجوباً في باب «الاستثمار السياسي »، في أجواء الفوضى، علماً أن هذا الأسلوب ليس مستجداً وقد تجلى في «الحسم العسكري » الداخلي في حزيران/يونيو 2007 . في الأجواء ذاتها ظهرت تصريحات تفيد

ب «غياب فصائل منظمة التحرير عن ساحة الدفاع عن غزة وأهلها ». وهو ما جرى الرد عليه في رام الله وغزة والقاهرة، بأن عدد شهداء كتائب الأقصى والجبهتين الشعبية والديمقراطية إضافة للجهاد الإسلامي هم أضعاف عدد شهداء حركة حماس.

ازدهرت هذه السجالات قبل إزالة الأنقاض ورفع الركام، وقبل أن تبرأ جروح آلاف الغزاويين.وفي وقت كانت فيه الطرق ما زالت مغلقة أمام البدء بالإعمار، والاستفادة من التبرعات وعروض المساعدات. وقد جرى تتويج التشنج السياسي، بالدعوة إلى «إطار جديد يجمع القوى الوطنية في الداخل والخارج » وهو ما تحدث به رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل من الدوحة، بما فهم منه بناء منظمة بديلة لمنظمة التحرير الكيان السياسي والقانوني المعنوي الذي تعترف به أكثر من مائة دولة في العالم. وبفضل هذا الغطاء نشأت السلطة الوطنية، وبفضل نشوء السلطة نشأ المجلس التشريعي وجرت انتخابات، تقوم حماس، على الدوام، بالتذكير بفوزها بها، مع «التطنيش » عن الانقلاب الذي نفذته الحركة ضد شرعيتها.

بدا واضحاً أن هذا التصعيد يشكل إحدى ذرى الاستثمار السياسي لنصر احتسبه تنظيم ل «نفسه » دون الآخرين. وقد أثار التصريح موجة كبيرة من الردود شملت فصائل منظمة التحرير وأعضاء في المجلس الوطني)برلمان المنفى( ضد «التلاعب بالتمثيل » على حد وصف نايف حواتمة، أحد الزعماء التاريخيين للحركة الوطنية الفلسطينية، والذي يتخذ من دمشق مقراً له، ما حمل مشعل، في النهاية، على التراجع عن تصريحه، الذي لم يلق أي تأييد لدى فصائل وشخصيات الداخل، بما في ذلك حركة الجهاد الإسلامي الأقرب أيديولوجياً لحركة حماس. غير أن مصادر متعددة ترى أن حماس ماضية في مشروعها الذي يلقى غطاء إقليمياً، لاستحداث «إطار مرجعي بديل »، وأن تراجع حماس هو لفظي وتكتيكي لامتصاص ردود الفعل الساخطة، بما يوفر فرصة لاستنزاف سياسي مديد داخل الساحة الفلسطينية، وللحد من الدعم العربي على قاعدة «ثنائية التمثيل » وضرورة أن يتفق الفلسطينيون أولاً ما بينهم. بما يدخل القضية في متاهات جديدة. ترفض الحركة مواصلة الحوار، وهو موقف دأبت عليه قبل التطورات الأخيرة، ووجدت أن الظروف مواتية للتشبث به وتصعيده، وذلك في موقف يتعاكس مع دروس الحرب وما شهدته من تلاحم ميداني، ويخالف المزاج الشعبي، وبخاصة في غزة الذي يلح على استئناف الحوار واستعادة الوحدة لضمان الرد الناجع على الوحشية الإسرائيلية.

وهو ما أدى في المحصلة لإعلان من السلطة على لسان الرئيس عباس، بأنه «لا يمكن استئناف الحوار، مع من ينكرون الإطار الذي يمثل شعبهم ». عوض ذلك استمرت الحركة في مطالباتها بفتح معبر رفح. وهي مطالبة صائبة ومنطقية، لولا أنها تأتي في سياق الاستثمار السياسي، إذ إن فتح المعبر يتطلب، في الحد الأدنى توافقاً فلسطينياً، وحكومة تعكس هذا الوفاق وتتولى الأمور على المعبر، بدل التعامل مع تنظيم بعينه دون سواه، وبدل فرض أمر واقع باستبعاد السلطة الفلسطينية التي وقعت إلى جانب مصر على اتفاقية المعابر. وفي واقع الأمر، فإن الحملات المتناغمة ضد موقف مصر من المعبر، بدت منسجمة رغم تعدد مصادرها من الدوحة إلى بيروت إلى دمشق، من أجل حمل هذا البلد على تمكين تنظيم بعينه،

من الانفراد بتقرير الأمور على المعبر وعلى سواه من شؤون حياتية وسياسية في القطاع وفي مسار القضية الفلسطينية.

يسترعي الانتباه أن هذا التجييش في الاتجاه الخاطىء، قد تم ويتواصل فصولاً، مع إدارة الظهر للتحولات السياسية الناجمة عن مباشرة الإدارة الأميركية انغماسها في الشأن الشرق الأوسطي، ومع الحرج الذي تواجهه عواصم أوروبية غضت النظر عن الحرب الوحشية، ورأت بعضها فيها حرباً دفاعية مزعومة مثل براغ التي تترأس الاتحاد الأوروبي، التي حاولت التراجع عن موقفها ولكن دون توفيق. كان الوضع وما زال يملي

استثماراً سياسياً رشيداً، لا تكريس الانقسام والذهاب في استثمار فئوي. ما يملي تقوية وتوحيد الوضع الفلسطيني، والقيام بمراجعة أمينة وجريئة للمرحلة السابقة وتحديد مسؤولية كل من فتح وحماس في وصول الوضع إلى ما وصل إليه، والاحتكام إلى أطر دستورية )القانون الأساسي يقوم مقام دستور( في أجواء انتخابات جديدة في الضفة والقطاع، والانتقال من ذلك إلى التشدد في دعوة إدارة أوباما والمبعوث جورج ميتشل

لمسار سياسي جدي، يضع حداً لتلاعب تل أبيب بالتفاوض بإبقائه دون سقف زمني ودون مرجعية دولية وبغير رعاية طرف متفق عليه.

وحسناً فعلت السلطة بالانتقال من تعليق التفاوض إلى وقفه، وذلك في ضوء التغول الاستيطاني المتمادي في الضفة الغربية المحتلة. بما يؤشر لواقع سياسي جديد يتم فيه التعامل بجدية أكبر وبحزم ظاهر، ضد استغلال تل أبيب للتفاوض للتغطية على مشاريعها التوسعية، وهي نقطة بداية جيدة في التعامل مع مهمة مبعوث أوباما، الذي سبق له في مطلع الألفية أن عاين الوضع في الأراضي المحتلة وخرج بتقرير عرف ب «تقرير

ميتشيل »، حمل قدراً من التوازن قياساً بالمواقف الأميركية التقليدية في عهد بوش المشؤوم، وقد لقي التقرير آنذاك اعتراضات من حكومة شارون. الآن تغيرت الظروف، فالمطلوب ليس توصيف الوضع ولا وضع مبادرات جديدة، بل الشروع في رعاية مفاوضات جدية وفق

القرارات الدولية، للتوصل إلى حل نهائي في أمد زمني محدد وغير مفتوح، وخلال ذلك العودة إلى التوحد الميداني والسياسي، فالاعتداءات الإسرائيلية ماضية على قطاع غزة وتقترن بتهديدات متوالية من تل أبيب، فعلى من يستعجل قطف الثمار لتنظيمه دون شعب فلسطين أن يتمهل قليلاً.

استخلاص معاكس لنتائج الصمود في غزة تعظيم الانقسام واستثمار سياسي فئوي
 
05-Feb-2009
 
العدد 62