العدد 62 - أردني | ||||||||||||||
محمود الريماوي
مع تسلم الملك الشاب عبدالله الثاني سلطاته الدستورية في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات، بدأت ملامح قيادة جديدة في الارتسام، وذلك على أعتاب ألفية ثالثة، وفي إطار من استمرار المؤسسات والحياة الطبيعية في البلد. ملك البلاد الجديد آنذاك، الذي لم يُمض سوى أيام في ولاية العهد وأمضى سنوات تحت السلاح، بدا وما زال ذاتاً وطنية عصرية مفعمة بالطموح. وجرى التعبير عن ذلك ابتداء ببلورة معادلة تقوم على أن تعزيز المركز الإقليمي والدولي للمملكة الهاشمية، يتطلب أولاً رفع مستوى حياة المواطنين، وإيلاء الاقتصاد الأهمية الأولى، بالتجاور مع المضي في النهج الديمقراطي والمأسسة ومكافحة الفساد والفقر والبطالة. بعد عقد من الزمن، فإن ترجمة الحكومات للرؤى الملكية، ظلت ترجمة مجزوءة، انتقائية ومترددة.ولم تفلح المجالس النيابية بما فيها المجلس الحالي الخامس عشر، في تلبية طموح الشعب والملك، لتحديث المؤسسات واستكمال بناء دولة القانون. الزخم الذي أطلقته قيادة البلاد، بإنشاء هيئات تحمل رؤى الإصلاح وتعكس جهود نخب وممثلين عن الشعب، انتهى على أيدي بعض الحكومات إلى تجميد توصيات لـ«الأجندة الوطنية» وهيئة «الأردن أولاً» و«كلنا الأردن»، أو تم تشكيل لجان فرعية جديدة تستنسخ توصيات سابقة وتنتظر التطبيق. وهو ما يفسر أن الإصلاح السياسي ما زال يراوح مكانه.وعلى سبيل المثال، فإن قانون الانتخاب يعجز عن توليد ممثلين سياسيين في مجلس النواب، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فقد شابت الانتخابات النيابية الأخيرة شوائب ثقيلة، ومثلها الانتخابات البلدية، رغم أن قانون البلديات أعاد للناس حقوقها في اختيار ممثليها للمجالس البلدية. في السياق نفسه، فقد صدر قانون الأحزاب الأخير، للحد من الترهل الحزبي وأدى لترشيق عدد الأحزاب من 35 إلى 14 حزباً، ولم يستشعر الجمهور بالفعل غياباً للأحزاب التي تم حلها، غير أن البيئة السياسية تظل قاصرة عن اجتذاب الأحزاب ومنحها فرصة المشاركة عبر مجلس النواب وتالياً عبر السلطة التنفيذية، وذلك بـ«فضل» قانون الانتخاب، ونقص الإرادة السياسية، للتقدم نقلة نوعية إلى الأمام نحو تداول السلطة التنفيذية، وهو مآل كل نظام ديمقراطي. ليست الصورة قاتمة كما قد تثور انطباعات، فانفتاح الفضاء أمام وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، والتقدم الكمي للمنابر الإعلامية من مطبوعات وقنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية ومواقع إلكترونية، وتحسن أدائها مع ارتفاع نسبي في حرية التعبير وتداول المعلومات، قد رفع في المحصلة من درجة الوعي العام، ومنح فرصاً للاستثمار والتشغيل. مع ذلك لم تحسم الحكومات خياراتها، فتحرير الإعلام ما زال طموحاً ينتظر التنفيذ، وما زال شبح وزارة الإعلام ماثلاً في تعيين أعضاء مجالس إدارة الهيئات، وحتى لدى بعض الصحف اليومية. وفي المؤشرات الاقتصادية طرأت ارتفاعات ملحوظة على الناتج المحلي الإجمالي، وعلى نصيب الفرد من هذا الناتج، لكن مع زيادة في معدلات التضخم، وهو ما سعت الحكومات لاحتوائه عبر زيادات الأجور والرواتب ورفع الحد الأدنى للأجور، لكن دون ترجمة التوجه الملكي بربط الأجور بمعدلات الأسعار وكلفة المعيشة. وتم المضي في بناء مشاريع سكنية وفي إزالة البؤر الأشد فقراً، ومواصلة دعم المشاريع الصغيرة في الريف، ومشاريع التدريب المهني، والاستمرار في نظام المعونة الوطنية وهو إنجاز يسجل للأردن رغم أية شوائب تشوبه، يتعلق بعضها في نظر فئات من الجمهور إلى أن المال العام سائب، وهو ما توافقهم عليه فئات أخرى من متنفذين، لا يرون في هدر مال الخزينة عيباً، وذلك نتيجة ضعف الرقابة خاصة لدى المؤسسة التشريعية. وفي التحول الاقتصادي، فإن نشوء المناطق التنموية عكس في الأساس إرادة ملكية في شمول مناطق المملكة بثمرات التنمية، وذلك ابتداء من منطقة العقبة التي وفرت آلاف فرص العمل ووفرت نافذة استثمارية واسعة، إضافة إلى مناطق مماثلة تنتظر استكمال تنفيذ ها في المفرق وإربد ومعان. وذلك بعد أن استأثرت العاصمة على مدى عقود بخدمات التطوير واستقطاب العاملين، ما أدى في النتيجة مع الهجرات الداخلية ومن الخارج، لأن تنوء عمان بساكنيها ومبانيها ومركباتها. وقد لاحظ من لاحظ أن الأردن استقبل الأزمة المالية العالمية بأقل قدر من الخسائر، رغم حالة ركود شهدتها بعض قطاعات، فيما أدت موجة الغلاء السابقة في أسعار المحروقات، إلى شيوع قيم ترشيد الاستهلاك. وبينما أخفق قطاع حيوي مثل قطاع النقل العام في تلبية احتياجات الزيادة السكانية والتوسع العمراني بما يجعل منه قصة فشل ذريع، أدت لتفشي حيازة المركبات الخاصة، فإن قطاع الاتصالات شهد تقدماً ملحوظاً في السنوات العشر الماضية، إذ تحسن مستوى الخدمة بصورة ملحوظة، وامتد ليشمل مع انتشار خدمة الهواتف الخلوية سائر مناطق المملكة بما فيها البوادي، علاوة على انتشار خدمة الإنترنت دون قيود. ومع استذكار الظروف الداخلية والتحديات المحلية، فقد عاش الأردن طيلة العقد الذي انقضى، في قلب عاصفة من التحديات من بينها أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة واحتلال العراق بعد عامين، واضطراب الوضع في لبنان، والتنصل الإسرائيلي من موجبات السلام، والانقسام الفلسطيني وانتهاء بالحرب الدموية الأخيرة على غزة. كانت الحروب والصراعات قريبة من الحدود، وترتد بعض امتدادتها داخل الحدود، وتتردد أصداؤها في فضاء البلاد، وهو ما انعكس في انفراجات وتضييقات متعاقبة على الحريات وحدد إيقاعاً بطيئاً ومتردداً لتكريس النهج الديمقراطي، الأمر الذي أفادت منه في النتيجة قوى محافظة في بعض دوائر صنع القرار وخارجها (بقاء الحراك السياسي والحزبي مرهوناً بحزب واحد في الشارع)، فيما حافظ الأردن على استقراره وتماسكه أمام الأنواء الخارجية، وقد انعكس ضعف النظام العربي عليه وعلى أدائه، في مدى الفاعلية أمام تحديات خارجية وفي مقدمتها تحدي التوسع الإسرائيلي، ويلي ذلك وبدرجة أقل التمدد الإيراني ومفاعيله في المجتمعات والكيانات العربية : العراق، ولبنان، وفلسطين. في المحصلة، فإن الإصلاح ينجز بعض الخطوات الهامة في المجال الاقتصادي والتنموي وتحديث بعض المرافق الحيوية وتحسين خدماتها، لكن الإصلاح السياسي يراوح مكانه ويتغذى ليس فقط من التردد الرسمي، بل كذلك من انقسام النخب السياسية وبعضها نخب حزبية، ومن افتقار شرائح منها للعزيمة والقناعة، بأهمية إصلاح توافقي لا يثير مخاوف أي من مكونات المجتمع، ويلبي موجبات استكمال بناء دولة القانون، مع ما لذلك من استحقاقات اجتماعية وثقافية. من الواضح أن الطموح الذي يهجس ويجهر به ملك البلاد، يصطدم في بعض جوانبه بمصالح تقليدية وامتيارات مكتسبة ورؤى متوارثة، رغم أن دولاً آسيوية منها اليابان تتوفر مجتمعاتها على معتقدات اجتماعية موروثة صلبة ومتقادمة، ولم يكبحها ذلك عن اعتناق خيار التحديث والعصرنة، بتزكيتها لمبدأ العلم وحرية البحث العلمي والمأسسة الديمقراطية، وتعظيم قيمة العمل والإنتاج. وعليه، فإن طموحات الملك الإصلاحية والتنموية، ما زالت تنادي الإصلاحيين في مختلف مواقعهم، لكسب الرهان وفاء لمصالح البلاد، وتحقيقاً لتطلعات القوى الحية والأجيال الشابة للحاق بركب العصر. |
|
|||||||||||||