العدد 60 - كتاب
 

وضْع الثقافة العربية ليس غير نتاج تراكمي لتقييد الحريات، ولسوء الأوضاع التعليمية ونظمها البالية، وتخبط السياسات الاقتصادية القائمة على الاستهلاك والرفاء المفرط من جانب، والفقر والجوع والأمية من جانب آخر، وتخصيص ميزانيات خرافية للتسلح، وانشغال النظم السياسية والأحزاب والتكتلات حتى الثقافية منها بالحفاظ على مواقعها في السلطة، عبر نضال مستميت ودموي أحياناً، دون تقديم مشاريع تنموية أو اقتراح رؤى مستقبلية لدعم التعليم والثقافة التي يعدها بعض السياسيين شأناً ثانوياً لا علاقة له بالنمو الاجتماعي، والاستقرار السياسي، ونجاح الإدارات الحكومية، وسيادة الأوطان.

أسباب الخلل الثقافي العربي كثيرة ومتداخلة، منها، على سبيل المثال، تحجر النظم التعليمية المتخلفة، والتربية البيتية القائمة على إعلاء شأن الطاعة قبل أن يتأسس الوعي، ومصادرة روح المبادرة لتحل الأوامر القاطعة محلها. هذه النظم تعتمد مبدأ التلقين والحفظ، دون الاحتكام إلى تحفيز العقل وإثارة الأسئلة، فنحن نخرّج في مدارسنا أجيالاً مذعنة مطيعة وطيعة ومقولبة يسهل قيادها وتدجينها، مما يعزز الاستبداد، ويحجم العقول، ويحرم الاختلاف الذي يعد شرطاً لازدهار أية ثقافة.

تقرير مؤسسة الفكر العربي الخاص بواقع الثقافة العربية، يكشف عن تدهور يتهدد الثقافة العربية راهنا، بدلالة أرقام من واقع الأوضاع التعليمية والثقافية. فمعدل الالتحاق بالتعليم في الدول العربية لا يتجاوز نسبة 21.8 في المئة، بينما يصل في كوريا الجنوبية إلى 91 في المئة، وفي أستراليا إلى 72 في المئة، وفي إسرائيل 58 في المئة. نِسَبٌ مخيفة تدلل على تدهور الأوضاع التعليمية التي نستقي من خلالها المؤشرات والنذر عن احتمال انقراض الثقافة العربية وتلاشي بعض مفرداتها.

خلل اللغة العربية الآن مرتبط بضيق هامش حرية التفكير والتعبير، إلى جانب طغيان اللهجات العامية أو القريبة من العامية في وسائل الإعلام والأعمال الدرامية، مما يفضي إلى انحسار اللغة الفصحى في غضون عقود قليلة، وإلى موت اللغة العربية إذا استمرت وتائر التراجع بهذه الصورة الخطيرة. وبموت اللغة -وهي وعاء الثقافة- تتراجع الثقافة وتضمر أمام تحديات الثقافات الحية التي تنافسها بطرائق ووسائل شتى مدعومة من جهات دولية ومنظمات عالمية.

مؤشرات خطيرة أخرى تخبرنا أن هنالك كتابا واحدا يصدر لكل 12 ألف مواطن عربي، بينما يصدر كتاب لكل 500 مواطن إنجليزي، وكتاب لكل 900 ألماني، بمعنى أن معدلات القراءة في العالم العربي لا تتخطى نسبة 4 في المئة من معدل القراء في بريطانيا.

وتنعدم لدى الأجيال المدجنة أية قدرة على النقد، لأنها كُيّفت على أساس وجود حقيقة مطلقة من منظور واحد رسمي أو أيديولوجي، لا يبيح مناقشتها أو طرح التساؤلات بشأنها.

أما النظم التعليمية المتقدمة في عالمنا المعاصر، فإنها لا تقدم للطلاب وجهة نظر واحدة في شأن من الشؤون، بل تطلعهم على وجهات نظر متباينة، ولهم أن يبحثوا ويتساءلوا ويستنتجوا ليختاروا ما يمثل قناعتهم الشخصية ويعزز قدرتهم على الابتكار والإبداع، وبذلك ينشأ الفرد حُرَّ الخيارات، بعيدا عن قسر التلقين والإرغام، ويجترح له رؤى خاصة، وتصورات عقلانية عن الإنسان والتاريخ والحاضر، مما يتيح له ولوج المستقبل كعنصر مثقف وواعٍ لمتطلبات الزمن المقبل، وواثق من اتخاذ القرارات الصائبة إلى حد كبير.

في حين أن نظمُنا التعليمية تكبل العقلَ، وتهمل شأن الروح، وتتعامل مع الأفراد كأنهم دمى متماثلة، وتحظر المبادرة، وتركن إلى العقاب إذا ما تجرأ طالب وأدلى باجتهاد يناقض الحقائق المطلقة التي يلقنونها له في المقررات المدرسية، بل إن المدارس تستدعي ولي أمر الطالب الذي تمرد على الإجماع، وتطالبه بالتعاون لإعادة الطالب الناشز إلى «الحظيرة» ونظامها القطيعي الذي يحرم طرح السؤال، ويقيد اشتغال العقل، ويحظر الاختلاف.

متى يكون بوسع الفرد إشهار اختلافه دون أن ينتظر ردعا أو قصاصا من جهات تتحكم بالذائقة العامة، وتحاول فرض رؤية واحدة على المجتمع بمختلف مشاربه ومعتقداته وأطيافه؟

لطفية الدليمي: خلل ثقافي وأزمات مترادفة
 
22-Jan-2009
 
العدد 60