العدد 60 - ثقافي
 

وليد الشاعر

«كان لوالدي الشيخ مهنة غريبة، فقد كان يغسل الأموات ويقدمهم للدفن، يسحّر في رمضان، ويقرأ القرآن على القبور، وكان هذا يعطي انطباعا في المخيم أننا أسرة على علاقة وطيدة بالموت. كنا فقراء إلى حد يصعب وصفه، ويمكن القول إننا كنا أفقر أسرة في المخيم». هذا ما يتذكره أحمد دحبور، الشاعر الفلسطيني، عن طفولته وبدايات وعيه، ويتابع: «كنا أسرة كبيرة العدد، ولم يتوفر لنا إلا غرفة واحدة، حتى إن أخي الكبير عندما تزوج اضطر إلى وضع ساتر قماشي بيننا وبينه هو وعروسه في الغرفة نفسها».

حياة اللجوء التي عاشها دحبور، ابن حيفا، دفعته أن يتمثل هذه التجربة في العديد من قصائده ومنها: «عرس على الطريقة الفلسطينية»، و«راوية المخيم»، و«الولد الفلسطيني يدعو إلى الكلمة التي حذفتها الرقابة»، و«لا مرثية الولد الفلسطيني»، و«ساعتان من الكهولة على حساب الولد الفلسطيني»، و«فلسطين الهوى».، وغلبت العناوين ذات الصلة بتجربة ابن المخيم على جلّ أعماله، مثل: «حكاية الولد الفلسطيني» (1971) و«طائر الوحدات» (1973).

أصدر مجموعته الأولى في الثامنة عشرة من عمره بعنوان «الضواري وعيون الأطفال» (1964)، ليتصدى لهموم كثيرة تجاوزت عمره، آنذاك، وظل مخلصاً لجمهوره من الفقراء والمقهورين. وإن ابتعد أحياناً نحو التأمل والتجريب، سرعان ما يعود إليهم مع كل تضحية يبذلها هذا الجمهور العريض في الشتات أو في الداخل الفلسطيني.

لأن كثافة إحساسه بالمعاناة دليله لرؤية الحقيقة، بقي دحبور لصيقاً بهذه الحالة طوال مسيرته الشعرية والنضالية، يستنطق منها اتجاه الريح التي تسيرّه وتملي عليه أفكاره. هذا ما يتجلى في مواقفه التي يعلن عنها في شعره، ومنها قصيدة «العودة إلى كربلاء»:

«شاهدتهم - عين المخيم فيَّ لا تخطئ - وكانوا:

تاجرا ومقامرا ومقنعا

كانوا دنانير الدخيل».

بموازاة الشعر، بل وقريباً منه، اشتغل دحبور على كتابة المقالات النقدية والسياسية، واشتهرت زاويته «هجر في الهواء» في مجلة «الأفق» التي كانت تصدر في قبرص. تطورت هذه التجربة كثيراً، إذ تابع الشاعر بعين الدارس عدداً من الشعراء والكتّاب العرب والأجانب في مقالات نشرها في مقالاته في صحيفة «الحياة الجديدة»، كما شغل منصب المدير العام لوزارة الثقافة الفلسطينية بعد عودته إلى غزة إثر قيام السلطة الفلسطينية.

عدّ دحبور عودته إلى أرض الوطن ناقصة. هذا ما دفعه ليكتب عن ذلك أكثر من مرة، إذ كتب في أول قصيدة عن حيفا بعد العودة: «حسرتها عليّ أم يا حسرتي عليها / وصلتُها ولم أعد إليها»، معللاً أنه في المنفى كان يحلم بالوطن وعندما وصل إلى الجزء المتاح له من الوطن أصبح يحلم بالوطن الذي سيكون، وأن عليه أن ينشئ معادلة معقدة بين ما ورثه من المنافي والتقاليد والعادات التي اكتسبها، وبين أهله الذين بقوا صامدين في الوطن.

قصيدته «مسافر مقيم» تعبّر عما يفكر به الشاعر بعد رجوعه إلى أرضه التي لم يعرفها:

«وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي

ولكن كلما دنا بَعُدَ؟

حيفا أهذي هي؟

أم قرنية تغار من عينيها؟

لعلها مأخوذة بحسرتي،

حسرتها علي أم يا حسرتي عليها؟

وصلتها ولم أعد إليها

وصلتها ولم أعد إليها

وصلتها ولم أعد..ط.

لا تستمر الحال طويلاً، إذ يخرج دحبور من غزة كردّ فعل إزاء ما يجري في القطاع من تحوّلات دراماتيكية، تَحُول دون أن يكون أفقاً لتعددية الألوان. فقد تعرّض دحبور لجملة مساءلات واعتقالات مؤقتة على خلفية الرأي الذي لا يناسب لوناً فلسطينياً بعينه. وبعد محاولات متكررة منه للخروج إلى رام الله، وافقت سلطات الاحتلال على منح الشاعر تصريحاً للانتقال إلى الضفة الغربية ومنها إلى مدينة حمص السورية التي تربى في مخيمها طفولة وشباباً.

عُمْرٌ هو ثلاثة وستون عاماً، ومرضٌ ألَمّ بشاعر الجماهير الفلسطينية، لا تمنحانه إلاّ عزلة ووحدة وألماً، ومزيداً من اغتراب الفلسطيني الذي يراكم منفى على منفى، مخلصاً لمشروعه الشعري الذي لم يُضرب عنه يوماً، لكنه أعلن الاضراب في قصيدة:

«أضربَ الشباك، لكن الفضاء

لم يزل يهب، من مستقبل الشباك، أو يأتي إليه

أضربَ العصفور، لكن الغناء

لم يزل يقتاد طفلا حالما من أذنيه

أضربَ الغيم، ولكن الشتاء

حدد الموعد،

والمزراب يغري العتبة

ما الذي تطلب هذي الكائنات المضربة؟

كيف إضراب ولا إغلاق؟

لا إعلان حتى في جريدة

استرح وارتشف المرّة،

لا خوف من العصيان،

لا أخبار عن مزرعة الفلفل في هذا المساء

كل ما في الأمر أن الحبر والصبر معا، والموهبة

عجزت أن تقنع الأشياء بالتجريد،

أو تدخلها في تجربة

هكذا لن تصبح الأشياء موضوع قصيدة».

أحمد دحبور: الولد الفلسطيني يراكم “منفى” على منفى
 
22-Jan-2009
 
العدد 60