العدد 60 - ثقافي
 

السّجل - خاص

ارتبط فن الجداريات تاريخياً بموقف رافض للاحتلال والعنف والممارسات اللإنسانية. وحظيت فلسطين التي اختبر شعبُها صنوفاً متعددة من العذاب والتشريد والقتل الجماعي على مدى أكثر من ستين عاماً، بالنصيب الأكبر من الجداريات في العصر الحديث، سواء تلك التي نفذها مجموعة من الفنانين من مثل «مطرزة حق العودة» التي توثق للقرى الفلسطينية، و«جذور بلادي» التي نُفذت بجامعة الأقصى في غزة، أو تلك التي أنجزها أفراد، كجدارية «السيرة والمسيرة» لإسماعيل شموط وتمام الأكحل، وهو ما يشير إلى رسالة الفن ودوره بوصفه أداة للمقاومة، ويقود في إحدى غاياته إلى رفع الوعي بالقضية الفلسطينية، وتسطير سجل خالد يرسخ الأبعاد الإنسانية لهذه القضية في أذهان الأجيال المقبلة.

تأكيداً لهذا الدور، لبّى نحو الثلاثين فناناً من دول عربية وأجنبية دعوة نقابة المهندسين الأردنيين لإنجاز «جدارية الصمود» التي رُفعت الستارة عنها في مجمع النقابات المهنية، وتألفت من أجزاء متشابهة المساحات، مساحة الجزء الواحد متراً مربعاً، خُصص كل جزء لفنان واحد ينجز لوحته عليه، بما ينسجم مع تجربته، ورؤيته الفنية.

عبّرت الرسومات المنفذة بالإكريليك، عن إدانة للعدوان الإسرائيلي وبشاعته ودمويته التي تغتال الحياة بيد باردة، فتقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتمتد لتدمر الشجر والحجر وأماكن العبادة على السواء. لذا كان من الطبيعي أن يحضر الأحمر، لون الدم الطازج، أو البني، لون الدم المختمر ليجلل بعض سطوح الأعمال، فيما تسيّدَ الأسود والأبيض سطوح أعمال أخرى. كما حضرت الأيقونات التي تمثل آلام الأطفال وأنين الثكالى، في لوحة الأميركية جاكلين تيلر التي استخدمت صوراً من الصحف لأطفال غزة وقد تحجرت دموعهم في مآقيها الصغيرة. ما يزيد هذه اللوحة تأثيراً ذلك الفضاء من الأصفر والأسود الذي يوحي بالانفجارت المرعبة.

الوجوه كان لها الحضور الأكبر في فضاء الجدارية، فوجوه عادل قديح ذات الأسلوب التعبيري الرمزي واجمة تحملق في فضاء أسود وتبكي مسائلةً ضمير العالم، أما كمال الجقة فصوّر الحرب الإسرائيلية من خلال وجوه بلا أفواه، تطلّ عيونها بهلع، ورغم أن أحجامها مختلفة إلا أنها جميعها تصرخ من دون أن يخرج صوتها. أما وجوه محمد الجالوس فهي غائمة الملامح، موزعة في مربعات هندسية متساوية، لا شيء يميز الواحد منها عن البقية، في إشارة إلى أعداد الشهداء والضحايا الذين حملوا أرقاماً ظل تعدادها في تصاعد من دون أن تُعرف أسماؤهم أو هوياتهم.

تستمر الدوامة اللونية بالأحمر والأسود، لتصور مشاهد من مدينة غزة وساكنيها الذين حرصت نار «إسرائيل» أن لا تبقي منهم ولا تذر، حيث صوّرَ عصام طنطاوي جنود الاحتلال وهم يوجهون نارهم بوجه الأطفال. في اللوحة ثمة قبور كثيرة وبقع دم تملأ المكان. أما محمود صادق، فقد اختار أيقونة العقرب الأسود رمزاً للاحتلال، يجاوره طفل مكفَّن بلفائف بيضاء، بينما مال نصر عبد العزيز إلى الواقعية الصادمة فرسم دبابات في مواجهة الأطفال. الرسالة التي يريد الفنان إيصالها، أن هول المجزرة لا يمكن التعبير عنه إلا بكل هذا الوضوح. أما عماد درويش فوظّف لوحة غورنيكا -رسمها بيكاسو ليصور القصف النازي على قرية غورنيكا شمالي إسبانيا، التي قُتل عدد كبير من سكانها، وهي اللوحة التي أصبحت رمزاً عالمياً لتصوير هول الحرب وجبروتها- لتظهر كأنها رُسمت على جدران بيت فلسطيني في داخله طفل يغرق بدمه النازف.

واختارت نعمت الناصر تصوير بيوت غزّة مستخدمةً الكرتون الهش المركب على خلفية لنيرانٍ مشتعلة، داخل بقايا هذه البيوت الكرتونية ثمة أطفال لا ملجأ لهم من الموت أو مهرب، كذلك صور البريطاني إشلي إشفورد آهات الأطفال وأنينهم خلف الجدران المهدمة.

ولأن هذا الاعتداء الصارخ كشف، تخاذل الموقف العربي الرسمي وضعفه، إلى جانب بشاعة العدوان، فقد صور عدد من اللوحات الرجلَ العربي بلباسه التقليدي الدالّ عليه، وقد وُضعت عصابة سوداء على عينيه، فيما كممت كتلةٌ من الدم فمه،. كذلك استدعى فنانون رمز الحصان الذي يبدو أن فارسه ترجّل عنه وتركه وحيداً، ورمز الحمائم السوداء التي تشير إلى موت السلام.

وظّف فنانون الحرفَ العربي في لوحاتهم، ليعبّروا عن صمود أهل غزة الأسطوري في وجه مدرعات العدو الصهيوني. اختارت السعودية علا حجاز أيقونة رُسمت بالبني وحُززت عليها حروف عربية غير مقروءة، فيما تناثرت حولها، فوق الأبيض، كلمات من قصيدة لمحمود درويش بعنوان "صمت من أجل غزة": «تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحار /إنه أسلوب غـزة في إعلان جدارتها بالحياة /منذ أربع سنوات ولحم غـزة يتطاير شظايا قذائف /لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غـزة في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف العدو /ومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن.. إلا في غـزة / ‏لأن غـزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء.. لأن غـزة جزيرة كلما انفجرت -وهي لا تكف‏‏ عن الانفجار- خدشت وجه العدو وكسرت أحلامه وصدّته عن الرضا بالزمن».

كذلك كتبت هيلدا حياري بالأسود وعبر دوامة من أجرام لونية: «غزة»، فيما اختار عباس يوسف الأصفرَ أرضية للوحته التي تنتشر عليها مربعات من تدرجات الأصفر وخطوط عربية غائمة.

من المتوقع، بعد أن أتم الفنانون جداريتهم، أن يُصار إلى عرضها في الأردن وفي دول أخرى، كما يؤكد القائمون على المشروع، مشيرين إلى أن هناك نية لعرضها في جامعة الدول العربية ومعهد العالم العربي بباريس، لتقديم رسالة حضارية تواجه الممارسات الصهيونية التي لا تمت للحضارة والإنسانية بصلة.

شارك في إنجاز الجدارية من الفنانين الأردنيين: مهنا الدرة، نصر عبد العزيز، محمد الجالوس، محمد نصر الله، علي الغول، خيري حرز الله، بدر محاسنة، عبد الرؤوف شمعون، نعمت الناصر، هيلدا حياري، جمال الجقة، رزق عبد الهادي، محمود صادق، فاروق لمبز، عصام طنطاوي، وعلي ماهر.

ومن الفنانين العرب شارك: علا حجازي (السعودية)، عباس يوسف (البحرين)، عصام درويش وحمود شنتوت (سورية)، تمام الأكحل ورنا بشارة (فلسطين)، فؤاد جوهر ونور جوهر وعادل قديح (لبنان)، محمد منصور (مصر)، تمارا النوري وإبراهيم العبدلي وسعيد شنين (العراق)، تاج السر أحمد (السودان)، مها المنصور (الكويت)، ومبارك بوحشيشي (المغرب).

كما شارك في إنجاز الجدارية: إشلي إشفورد (بريطانيا)، فليز سوياك (تركيا)، وجاكلين تيلر (أميركا)،

جدارية الصمود: استنهاض رسالة الفن
 
22-Jan-2009
 
العدد 60