العدد 59 - حريات
 

سامر خير أحمد

وفّر النشر الإلكتروني، الآخذ بالاتساع مع تزايد الاعتماد على شبكة الإنترنت في الحصول على المعلومات، نمطاً جديداً من القراءة يعتمد على التفاعل بين القارئ والكاتب، أو بين القارئ والناشر، ما أتاح حرية أكبر في إبداء الرأي حول القضية المطروحة للقارئ كما للكاتب، ووفر فرصة يمكن من خلالها للقارئ تقييم ما يقدمه الكاتب، أو تقييم الكاتب نفسه، فيكتب عنه كل ما يجول بخاطره.

تُعرّف الموسوعة العربية للكمبيوتر والإنترنت، النشر الإلكتروني بأنه "العملية التي يتم من خلالها تقديم الوسائط المطبوعة كالكتب والأبحاث العلمية، بصيغة يمكن استقبالها وقراءتها عبر شبكة الإنترنت, وتتميز هذه الصيغة بأنها صيغة مضغوطة ومدعومة بوسائط وأدوات كالأصوات والرسوم ونقاط التوصيل، التي تربط القارئ بمعلومات فرعية أو بمواقع على شبكة الإنترنت". توضح الموسوعة أن "التفاعلية Interactivity" هي إحدى ميزات هذا النوع من النشر، مقارنة بالنشر الورقي التقليدي، إلى جانب ميزات أخرى أهمها تقليل تكاليف الطبع والتوزيع والشحن، واختصار الوقت من خلال البحث عبر الإنترنت عوضاً عن الذهاب إلى المكتبات، وتسهيل البحث عن المعلومات من خلال البحث الآلي، ثم توفير المساحة التي تحتلها الوثائق المطبوعة، وسهولة تعديل المواد المنشورة وتنقيحها، إلى غير ذلك.

ورغم ما تتيحه خاصية "التفاعل" في النشر الإلكتروني من حرية، قياساً إلى النشر الورقي، فهناك من يرى أنها تنطوي على مخاطر جمّة، ليس أقلها استغلالها من قبل من لا يراعون الحد الأدنى من لباقة الخطاب، في بثّ شتائم أو كلمات نابية عبر الشبكة، تجاه الكاتب أو الناشر أو أي كان.

للتخلص من هذه "المخاطر"، عادة ما يكون التفاعل الإلكتروني في المواقع التابعة لمؤسسات إعلامية، كالصحف ووكالات الأنباء ومواقع الإنترنت الإخبارية، خاضعاً لنوع من الرقابة أو الإشراف، بحيث يتم استثناء العبارات التي تعتبر "خادشة للحياء العام" من النشر، لكن أمراً كهذا لا يتوافر في مواقع أخرى، وبخاصة الشخصية منها التي يحررها أفراد كالمدونات ، فهذه يمكن أن ينشر فيها زائر الموقع ما يريد، قبل أن يتنبه المدون ويتمكن من حذف التعليقات "غير اللائقة". من طرائف ما يمكن الإشارة له ، أن الكاتب باتر وردم كان يضع عنوانه الإلكتروني على الصفحة الرئيسية في مدونته، تسبقه عبارة "للملاحظات والشتائم.."، إذ لا مناص من الشتائم!.

الكاتب الصحفي محمد أبو رمان، مدير تحرير الرأي والقضايا في صحيفة "الغد"، يقول إن صحيفته حددت معايير لنشر الردود على موقعها الإلكتروني، أهمها مراعاة الرد "المهنية"، فلا يحتوي على شخصنة أو شتائم أو تحقير لأي كان، وأن يلتزم القوانين المرعية. يرى أبو رمان أن هذه المعايير لا تخفّض سقف حرية التعبير على الموقع الإلكتروني، ففي كل الأحوال تظل حرية التعبير على الموقع أوسع منها على الصحيفة الورقية، ما يدل على أن التفاعلية أضفت ميزة إيجابية على الإعلام، تتفوق على ما قد يراه البعض من سلبيات، فلم يعد الإعلام يتكلم مع نفسه، بل صار يسمع صوت الناس، ويتعرف على مواقفهم مما يورده من أخبار ومقالات رأي. هذه الميزة أتاحت أيضاً للقراء أنفسهم التتفاعل مع بعضهم بعضاً، وكتابة ردود على تعليقات القراء الآخرين، فلم يعد القارئ يكتفي بقراءة المقال أو الخبر، بل يحرص على قراءة الردود والتعليقات الأخرى، ما أتاح مجالاً واسعاً للتفاعل والنقاش لم يكن متاحاً من قبل.

الصحافي والمدون محمد عمر، الذي يحرر واحدة من أشهر المدونات الأردنية وأكثرها قراءة "البوابة"، يرى أن مستوى التفاعل الإلكتروني في الأردن، يرتبط بمستوى المادة التي ينشرها الموقع الإلكتروني، فهو –إذن- الذي يحدد مستوى الرد، إذ حين ينشر الموقع مادة هدفها الإثارة، فليس له أن يتوقع ردوداً وتعليقات ذات قيمة، وبالعكس، حين تكون المادة قيّمة، تنطوي على مسألة جدلية أو معلومات مفيدة، فإن الردود والتعليقات عادة ما تكون سجالية الطابع، وذات قيمة هي الأخرى.

عن مدونته، يقول محمد عمر إنه تلقي ردوداً ذات قيمة في مواضيع عديدة، مثلاً: حين ناقش أمور السينما، أو حين أبدى رأيه في المظاهرات التي جرت في الأيام الأخيرة. لكنه يتلقى ردوداً أخرى تكتفي بالتعبير عن الموقف: مع أو ضد، أو تلجأ لكيل الشتائم. في هذا الإطار يعتقد عمر أن من حق المدون ممارسة الرقابة على الردود، وقد كان سابقاً يمنع التعليقات التي تحمل شتائم له، لكنه في الشهور الأخيرة بات يلجأ لسياسة مختلفة، إذ يسمح بالردود أياً كانت، إلا في حال حملت شتيمة لمعلق آخر، فهو لا يسمح بتبادل الشتائم على مدونته.

يفسر محمد عمر تبدّل سلوكه، باكتشافه أن السماح بالحرية المطلقة على مدونته، يكون مفيداً في أكثر الأحيان، إذ يمنع القرّاء من اتخاذ موقف عدائي من الكاتب، ويدفع شيئاً فشيئاً للارتقاء بمستوى الحوار تلقائياً.

أما الناشطة والصحافية الشابة عبير أبو طوق، وهي ممن يتفاعلون بكثرة مع المواد الإعلامية على المواقع الإلكترونية، فترى أن الرقابة على تعليقات المواقع الإلكترونية التابعة للصحف، تكون أكبر من المواقع الإخبارية الأخرى، وتفسر ذلك بأن الصحف عادة ما تهتم بالمهنية، فضلاً عن أن نوعية المواد التي تنشرها تفرض مستوى أكثر اتزاناً في الحوار.

تصنّف أبو طوق التعليقات التي تنشرها المواقع الإلكترونية، في نوعين: أحدها يُعنى بمناقشة المادة التي يعلق عليها، وآخر يريد صاحبه "التعليق لمجرد التعليق"، فيبدو خارج السياق، وهو ما يتجلى عادة في السجالات التي تتخذ طابعاً عشائرياً أو طائفياً. تعتقد أبو طوق، أن النوع الثاني هو الأكثر انتشاراً، ما يعني أن كثيراً من التعليقات تثير نزعات "عنصرية"، وتعتقد أن ذلك دفع محرري المواقع الإلكترونية للاهتمام بفرض رقابة أكبر على التعليقات، و"فلترتها"، بخاصة أن تلك المواقع باتت تتعرض للمساءلة القانونية على ما يبدو.

على أن الأمر لا يتوقف عند الكلمات النابية، فقد تلجأ بعض المؤسسات إلى منع نشر تعليقات، لما تتضمنه من آراء قد تخالف سياسة عامة ما، أو تطرح وجهة نظر لا ترغب المؤسسة بنشرها، ما يخرج فكرة التفاعل الإلكتروني عن غايتها الأساسية، بإفساح مجال أكبر لحرية التعبير.

هل يحتاج أمر التفاعل مع المواد المنشورة إلكترونياً، وبخاصة في المواقع الإعلامية، إلى تشريع، يحول دون استخدام هذه الخاصية في التجريح الشخصي، من قبل المعلّقين، أو يحول دون حرمان القارئ من استخدام تلك الفرصة للتعبير عن رأيه، من قبل المشرفين على المواقع الإلكترونية، كما هو الحال في ما يُعرف بـ"حق الرد" في المطبوعات والمنشورات الورقية؟.

في إطار الاهتمام بهذه المسألة ،يجري حالياً التحضير لعقد "الملتقى الأردني الأول لتشريعات المعاملات الإلكترونية" خلال يومي 16 و17 من شباط/فبراير المقبل، في عمّان، لمناقشة إمكانية صياغة تشريعات حول مختلف أوجه التعامل على الشبكة الإفتراضية، سواء المعاملات التجارية والمصرفية، أو إجراءات الحكومة الإلكترونية، أو النشر والصحافة على الإنترنت. الصحافي سميح المعايطة، الذي سيشارك في الملتقى بورقة عمل حول حرية التعبير على الإنترنت والرقابة الحكومية، يوضح أن الحكومة ليس لديها توجهات لوضع تشريع بهذا الخصوص حالياً، فيما تعتمد المواقع الإلكترونية على "ميثاق شرف" بشأن ما ينشر فيها. يرى المعايطة إن ذلك كافٍ الآن من وجهة نظره، بخاصة أن معظم القائمين على تلك المواقع هم من "الأشخاص الملتزمين"، لكنه يضيف أنه يمكن تقييم الأمر بعد فترة، وتحديد ما إذا كان مفيداً اللجوء إلى وضع تشريع أم لا.

يعقد المعايطة مقارنة بين تجربة المواقع الصحفية الإلكترونية، وتجربة الصحافة الأسبوعية في مطلع التسعينيات، فيقول إنها متشابهتان من حيث أنهما تلقيتا الدعم والتشجيع من مختلف الأوساط، وستكونان متشابهتين في المصير أيضاً، فبعد نضوج التجربة ستستمر المواقع الإلكترونية التي تقدم مواداً ذات قيمة، وسيتراجع حضور المواقع غير الجيدة، تماماً كما حدث مع الصحف الأسبوعية.

ككاتب صحافي، يرى المعايطة أن التعليقات التي ترده أكثرها إيجابية، وتنطوي على تفاعل مفيد بين الكاتب والقارئ. لكن المشكلة –يقول - تكمن في لجوء قراء إلى إرسال أكثر من رد، بأسماء مختلفة، بحيث يتصور المراقب أن ثمة حملة ضد الكاتب، أو رأياً عاماً معه. يقترح المعايطة لحل هذه المشكلة أن يطلب الموقع الإلكتروني من صاحب الرد كتابة بريده الإلكتروني الصحيح، ما يحول دون تكرار إرسال التعليقات من قبل الشخص نفسه، ويرى أن في ذلك حماية للرأي العام من التضليل.

مشكلة أخرى يلحظها المعايطة، بمواجهة الكاتب للمعلقين أنفسهم يومياً. بذلك يتعامل مع عدد محدود من الناس، فتصبح الميزة التفاعلية للنشر الإلكتروني محدودة.

يرفض محمد أبو رمان أن يُصار حالياً إلى وضع تشريع يتعلق بالإعلام الإلكتروني، برغم تأكيده أن التشريع قد يكون سلاحاً ذو حدين، فقد يكون مفيداً في مواجهة التعليقات والمواد الساعية لاغتيال الشخصية وتجاوز الأدب والأخلاق العامة التي يستسهل البعض اللجوء اليها، لكن التشريع قد يكون أداة للحد من حرية التعبير. في الموازنة بين الأمرين، ينحاز أبو رمان لفكرة الامتناع عن وضع تشريع حالياً، معتقداً أن من الأفضل تحمّل كلفة حرية التعبير، والسعي لتوسيعها، والاكتفاء بوضع "ميثاق شرف" للصحافة الإلكترونية.

الموقف نفسه تعبّر عنه أبو طوق، فترى أن القانون قد يكون مفيداً وقد لا يكون، وذلك بحسب ما يحتويه من مواد، لهذا تفضل الاكتفاء بميثاق الشرف، وتعتقد أن التعليقات والردود ستتجه للاتزان شيئاً فشيئاً، وتبتعد عن التجريح.

محمد عمر يخالف الآراء السابقة، ويؤيد وضع تشريع بهذا الخصوص، معتبراً أنه "جزء من دولة القانون"، مطالباً بأن يشمل التشريع مسائل حقوق الملكية الفكرية وحقوق العاملين في المواقع الإلكترونية، من دون أن يتدخل لا من قريب ولا من بعيد في حرية التعبير، بخاصة في المواقع الشخصية كالمدونات والمنتديات.

لكن هل يعد استخدام أسماء مستعارة في الردود، وسيلة لممارسة حرية غير مسؤولة؟ وهل يؤدي اشتراط كتابة الاسم الصريح، إلى التأثير سلباً على حرية التعبير، وتقييد قدرة المرء على كتابة ما يريد؟.

يرى المعايطة أن من الأفضل اشتراط كتابة الاسم الصريح لصاحب التعليق، لمنع تضليل الرأي العام ، على أن يُضمّن ذلك في ميثاق الشرف. أما أبو رمان وعمر وأبو طوق، فيجمعون على أن المهم مضمون التعليق أو الرد، لا اسم كاتبه. يعتقد أبو رمان أن الاسم الصريح ليس مطلوباً –على سبيل المثال- في الصحافة الغربية، إذ قد يهدف كاتب التعليق لكشف معلومات مهمة من دون أن يعلن اسمه، وحينها يحول اشتراط الاسم الصريح دون وصول المعلومة إلى الرأي العام، فيما يشبّه محمد عمر مساحة التعليقات باستطلاع الرأي العام، ففي هذا الأخير لا يُطلب اسم المشارك في الاستطلاع، ويرى أن ثمة اعتبارات اجتماعية يمكن أن تمنع الشخص من كتابة اسمه الصريح، وحينها يكون وضع شرط كهذا، بمثابة منع له من المشاركة. أما عبير أبو طوق فتستغرب أن يُطلب من المواطن كتابة اسمه، فيما يُتاح للمسؤولين التصريح باعتبارهم "مصدراً رفض الكشف عن اسمه".

"ے" من جهتها، لا تنشر على موقعها أي تعليق إلا إذا حمل اسم صاحبه كاملاً، مستندة في ذلك إلى سياسة عامة ترى أن هذا يفرض نوعاً من الشفافية، ويدفع صاحب التعليق لكتابة رأيه بموضوعية، وبشكل يعبّر عن وجهة نظره الحقيقية.

الحرية وحدودها في النشر الإلكتروني التفاعلي
 
15-Jan-2009
 
العدد 59