العدد 59 - ثقافي
 

فيصل درّاج

إذا كان كل مثقف كبير يحيل على نص أنجزه أو جملة من النصوص، فقد كانت حياة الراحل محمود أمين العالم، نصه الأكبر،فهو الأستاذ الجامعي، والناقد الأدبي، والمسؤول الثقافي، وهو المناضل السياسي، والقائد الحزبي، وهو سجين الرأي والعقيدة، والإنسان المنفي، والملتزم بحسبان ومن غير حسبان، والمثقف المقترب الذي لا يرضى بالسلطة ولا ترضى السلطة عنه... ولهذا عاش كما أراد، ووضع مرجعه في نفسه واطمأن، لم يسعَ إلى منصب، ولم تسعَ المناصب إليه.

بدأ الأمر مع هذا المثقف المصري المشبع بالتسامح، برومانسية المعرفة، التي أملت عليه، في نهاية أربعينيات القرن الماضي، أن يهتم بعلم النفس، وفلسفة العلوم، وبعلم حديث يدعى «السبرنتيك»، وأن يطرق أبواب «الوضعية المنطقية»، وأن ينشدّ إلى الفلسفة الوجودية، وأن ينظر إلى كتاب عبد الرحمن البدوي «الزمن الوجودي» بإعجاب كبير.. قاده كل هذا إلى أن يضع أطروحة عن «فلسفة المصادفة».. وإلى تأمل في معنى العلم وأقدار الإنسان. غير أن محمود، الذي اعتنق تفاؤلاً لا شفاء منه، ما لبث أن انتقل من التحزّب للمعرفة إلى التحزّب في المعرفة، مخلّفاً وراءه هموم الوجوديين وتجريدات الوضعية المنطقية، فأصبح ماركسياً ينظر إلى البشر في همومهم اليومية، وغدا شيوعياً مؤمناً بأولوية النظر على العمل، وبأن الثقافة فعل تحويلي، تنصر العدل وتقاتل الشقاء.

آمن العالم بقوة المعرفة، وآمن أكثر بقوة الفعل السياسي المستند إلى المعرفة، وحلم، مثل غيره من المثقفين الحالمين، بلقاءٍ سعيد بين المثقف والسياسي. غير أن «الثورة الناصرية»، التي دافع عنها حتى أيامه الأخيرة، نقضت حلمه، فذهب إلى السجن واعتصم بأفكاره الاشتراكية، التي لم يساوم عليها في أطوار الشباب والكهولة والشيخوخة.

رغم إيمانية ماركسية، فقد كان الرجل منفتحاً على الأفكار الأخرى، يقرأ ويساجل، ويرى في السّجال المسؤول تعبيراً حقيقياً عن معنى المعرفة. فساجل، في شبابه، العقاد، وطه حسين، ونقد توفيق الحكيم، وحاور، لاحقاً، أدونيس، والجابري، وجعل من مجلته «دراسات فكرية»، التي أنشأها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي بعد عودته من باريس، دفتراً كبيراً لكل آراء المثقفين المدافعين عن الحرية والقومية العربية والتقدم والعدل الاجتماعي.

واقع الأمر أن أقدار محمود أمين العالم، التي جعلت من حياته نصّه الأكبر، سمحت له أن يحقق ما التقى به ولم تسمح له أن يحقق ما أراد: فهو المثقف الطموح المثقل بشواغل سياسية، والمناضل الوطني الموزّع على أكثر من منفى، والناقد الأدبي المتابع للإصدارات الفلسفية، والقارئ الدمث الذي يلاحق كتابات العرب والمصريين.. جعله كل هذا يكتب ما استطاع متطلعاً إلى فسحة قادمة، تتيح له أن يعيد كتابة ما كتب بشكل آخر. فسحة لن تأتي، تركت كتابه الشهير مع عبدالعظيم أنيس: «في الثقافة المصرية» (1955) ينتظر ما يكمله، وأجبرته على وضع كتاب سريع عن «هربرت ماركوزه»، وآخر غير مختلف عن «المسرح المصري»، و«الوعي والوعي الزائف».

عاش هذا المثقف الأخلاقي اللامع مفارقة التزامه السياسي، فمارس الثقافة من أجل غايات سياسية، ومنعه عمله السياسي عن إنجاز عمله الثقافي، كما يريد، إنه المثقف المغترب السائر في اتجاهين لا يلتقيان، في المجتمعات المتخلّفة، إلاّ صدفة، فلا الحياة تمنح المثقف والسياسي الوقت الذي يحتاجه، ولا الشروط السياسية تمنح المثقف حياة كالآخرين، لا يتبقى في النهاية إلاّ الحلم، والبحث عن «هدنة صغيرة»، تترك الحالم قادراً على الوقوف.

لعل حصار الحياة، كما البحث عن مناسبات صغيرة تجيز الكلام، هو ما جعل محمود العالم حاضراً في الأنشطة الثقافية والفكرية كلها: يقدّم نقداً ذاتياً وهو يستعيد موقفه من طه حسين، «الذي كان يياسر ما استطاع»، ويقرأ نجيب محفوظ من وجهة نظر الالتزام السياسي، ويحتفي بالكفاح الفلسطيني، ويتعاطف مع منظمة التحرير، ويساجل مندفعاً مدافعاً عن «البروسترويكا».. كان محمود في كل مكان بصحبة تفاؤله وتسامحه وإقباله على الحياة: «أنا متفائل بطبيعتي»، كان يقول، فإنّ دقِّق القول قال: «أنا متفائل تاريخي»، و«أنا مؤمن بانتصار التقدم..».

لعل هذا الإيمان هو الذي كان يطلق فيه حيوية هائلة، حتى بعد أن جاوز الثمانين، ويضع على وجهه ابتسامة أليفة في أزمنة السقوط الكبير.

آمن العالم، في أطوار حياته كلها، بأن للفكر دوراً حاسماً في تغيير العالم، وهذا ظاهر في عناوين كتبه، فقد أصدر في ستينيات القرن الماضي «معارك فكرية»، وأشرف بعد عشرين عاماً على مجلة «دراسات فكرية» ووضع في الزمن الفاصل بينهما «الوعي والوعي الزائف»، مؤمناً بأن على «الفكر الحقيقي» أن يحارب نقيضه، وأن هناك، في مكان ما، فكراً لا يعتريه الزيف ولا يطاله الفساد. لكن السؤال، الذي عاشه العالم طويلاً هو: هل يستطيع المثقف المقاتل ضد الوعي الزائف، أن يواجه شروطاً اجتماعية تنتج وتعيد إنتاج الوعي الزائف باستمرار؟

جواب العالم الراحل: «الإنسان موقف»، عنوان أحد كتبه، وأن الإنسان صاحب الموقف يعمل ولا يكترث بالمكافأة.

محمود أمين العالم: المثقف المخلص الذي لم ينتظر مكافأة
 
15-Jan-2009
 
العدد 59