العدد 59 - أردني | ||||||||||||||
آمال نفاع مر يوم كان فيه اسم الجفر مرادفا لأقصى درجات العذاب الإنساني. كان ذلك في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، حين كان ذلك السجن الواقع في نقطة قصية من البادية الأردنية يغص بالسجناء من السياسيين المعارضين. ولكن تجربة هؤلاء المعتقلين أسفرت عن نتيجة باهرة؛ لقد روض المعتقلون ذلك الغول الذي يسمى الجفر الذي تحول من منفى إلى خلية تضج بالحياة والعلم والعمل، ومن رمز للقمع إلى مدرسة لتخريج المثقفين. بدأت قصة الجفر في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، حين أمر قائد قوات البادية، آنذاك، غلوب باشا بإقامة أبنية أشبه بقلاع صغيرة في مناطق مختلفة في البادية الأردنية تقوم مقام المخافر الأمامية، بهدف حماية المنطقة من غزوات البدو، وكانت "قلعة الجفر" واحدة من ثلاث قلاع أقيمت جنوبي البادية الأردنية وكانت تسمى "تيغريت" أو المقاطعة. بقي الجفر كذلك حتى العام 1949، حين أنزل فيه أول المساجين السياسيين في أعقاب مظاهرة نظمتها آنذاك عصبة التحرر الوطني الفلسطيني احتجاجا على عدم العمل على إقامة دولة فلسطينية في المنطقة المخصصة لإقامة دولة عربية في فلسطين إلى جانب الدولة اليهودية التي كانت قد قامت بالفعل. كان ذلك قبل أن يشكل شيوعيو العصبة الذين بقوا في الضفة الغربية والأردن، مع ماركسيي الأردن الحزب الشيوعي الأردني عام 1951. كان من أبرز تلك الدفعة من المعتقلين: رشدي شاهين وعبد الكريم القاضي. في العام 1950 حلت دفعة أخرى من المساجين الشيوعيين، لكن هؤلاء لم ينزلوا في القلعة نفسها، بل في خيمة أقيمت على مقربة منها، ومن أبرز هؤلاء المساجين فؤاد نصار وعبد الرحيم بدر وحنا حتر وفؤاد قسيس وعبد العزيز العطي. في ذلك العام أضيفت إلى الخيمة الأولى خيمتان أخريان، ثم أقيمت مهاجع تشبه "البركسات" ضمن أرضة مسورة، وكان ذلك إيذانا بتحول الجفر إلى سجن. أما الإعلان الرسمي عن ذلك التحول فقد تم عام 1953. ومنذ ذلك التاريخ، لم يتوقف الجفر عن استقبال المعتقلين السياسيين. وعلى الرغم من أن معظم هؤلاء كانوا من الشيوعيين، فإن الجفر استقبل معتقلين من مختلف الانتماءات السياسية، وبخاصة عام 1955 حين حاول المعلمون إقامة نقابة لهم فواجهتهم حكومة سمير الرفاعي آنذاك بالشدة، واعتقلت كثيرين منهم، كان من بينهم بعثيون وقوميون عرب، وبعض الإخوان المسلمين. ويذكر يوسف العظم في مذكراته أنه سجن في الجفر، وأنه أقام في مهجع واحد مع القائد الشيوعي فؤاد نصار، والذي كان يستيقظ مبكرا كل يوم ويعد طعام الإفطار ويوقظ العظم لكي يتناولانه معا. العام 1957 كان استثنائيا في هذا المجال، فقد بدأت الاعتقالات بعد أحداث الزرقاء التي وقعت على خلفية الانقلاب العسكري في العام المذكور، وكان للشيوعيين من الاعتقال نصيب الأسد. وأذكر أن رجل الأمن الذي كان يحصي المعتقلين قبل إقفال السجن قال لزميل له "لقد ألفنا"، أي أن عدد المعتقلين قد بلغ الألف. وكان نحو 99 في المئة منهم من الشيوعيين الذين طالت إقامتهم فارتبط اسم الجفر بهم إلى حد كبير. على الرغم من الطبيعة الصحراوية لمنطقة الجفر، فإن المنطقة كانت تحتوي على آبار للمياه، وكانت تلك فرصة للمساجين، وكان بينهم مهندسون زراعيون وفلاحون خبراء في الزراعة، لأن يحولوا الصحراء المترامية من حولهم إلى أرض زراعية مخضرة. كان المهندس الزراعي عبد العزيز عدينات أول من بدأ عملية التحويل الكبير تلك، حيث بدأ مع فريق من الفلاحين المجربين بغسل التربة وتنقيتها من الرمل، وبعد ذلك، بدأ عدينات وعدد كبير من الرفاق في طلب البذور من خارج السجن لزراعتها في تلك المنطقة السهلية. زرعنا الملوخية والسبانخ واليقطين والكوسا والباذنجان والبندورة، كما زرعنا الفواكه بأنواعها: التفاح والعنب والدراق. وأذكر أننا أكلنا 13 قطفة من نبتة ملوخية واحدة. وقد ساعدنا على إنجاح تجربتنا تلك أن إدارة السجن كانت تسمح لنا بطلب أشياء معينة من الخارج، حيث كانت لدينا الحرية الكاملة لإدارة حياتنا بالطريقة التي نراها مناسبة من دون تدخل من الإدارة. قسمنا أنفسنا مجموعات، وكانت كلما أتتنا طلبات أو هدايا من خارج السجن توزع على المجموعة وليس على جميع النزلاء. حتى حصصنا من اللحم وسمك البكلاي والحلاوة والسمنة كان يترك لنا أمر التصرف بها. وكان ذلك حافزا لنا لأن نحسن من شروط إقامتنا في تلك المنطقة المعزولة عن العالم، فاستخدمنا صفائح السمنة، والتي تجمع لدينا عدد كبير منها، في صناعة مدافيء تقينا برد الصحراء القارس، وصنعنا من الصناديق الخشبية التي كانت تأتي فيها شحنات سمك البكلاي كراسي وطاولات نجلس إليها، ومن بعضها صنعنا مفرخة للصيصان. وكان فارس هذه الصناعات هو موسى أسطفان (أبو جميل) الذي كان يخرج علينا بأفكار نيرة، فهو الذي اخترع المدافيء وكذلك المفرخة فضلا عن أشياء أخرى عديدة، من بينها صناعة عود أعطاه لداود عريقات، المعروف باسم الشيخ داود، والذي كان يتمتع بصوت جميل وأداء عذب. صنع أبو جميل العود من يقطينة تركها تكبر إلى أن أصبحت بحجم العود، وقطعها نصفين، وطلب أوتارا من خارج السجن وركبها على الجزء المقطوع من اليقطينة فتحولت إلى عود رنان، كان يعزف عليه الشيخ داود، وبخاصة في المناسبات؛ ذكرى ثورة أكتوبر، عيد العمال في الأول من أيار، ومناسبات أخرى مشابهة. وقد أذيع سرا إذا ذكرت أننا صنعنا العرق بطريقة التقطير، ولكننا لم نكن نحتسيه إلا في المناسبات المذكورة. ومع مرور الوقت أصبح لدينا قسم خاص للصيانة؛ صيانة الملابس والأشياء الأخرى التي تصاب بعطل ما، وفتحنا فصولا صفية للتعلم، فتعلمت أنا وسليمان النجاب وبشير البرغوثي اللغة الفرنسية التي كان يدرسها لنا خالد حمشاوي، والذي كان بوصفه طبيبا للأسنان، يعالج النزلاء، وكذلك أبناء رجال الأمن من الحراس الذين توثقت صلتنا بهم، وكان يعقوب زيادين يعالج المرضى منا ومن الحرس الذين كثيرا ما كنا نراهم يقفون على الأسوار ويتفرجون علينا ونحن نلعب كرة السلة أو كرة القدم أو الكرة الطائرة في باحة السجن. وقد نسجنا علاقات جيدة مع هؤلاء بمن في ذلك قائدهم حماد سالم، وهو والد وزير الداخلية فيما بعد، سلامة حماد. طلب حماد سالم، الذي كان أميا، أن نعلمه القراءة والكتابة، وبعد مدة، أصبح قادرا على الكتابة وإن في صورة ضعيفة. فتحنا فصولا لتعليم تخصصات متعددة مثل المحاسبة التي تعلمها عدد كبير من الرفاق، وحين خرجوا من السجن اتخذوها مهنة لهم، ومنهم منيف حمارنة، شقيق منير حمارنة، الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني حاليا. وكان هناك من قدم التوجيهي ونجح فشق طريقه في الحياة بفضل شهادته. كل ذلك بخلاف المحاضرات التثقيفية التي كنا ننظمها، وبخلاف عملية الترجمة التي كانت تقوم بها لجنة شكلت خصيصا من كل من بشير البرغوثي وسليمان النجاب وعربي عواد وجودة شهوان وآمال نفاع. وأذكر من بين الكتب التي ترجمناها كتاب ضد دوهرنغ لفريدريك إنغلز. وحين خرجنا من السجن بعد العفو العام سنة 1965 حملنا معنا نحو ألف كتاب، وفتحنا مكتبة باسم مكتبة بورسعيد وضعنا فيها الكتب وتسلم إدارتها وليد عطيوي. ليس سرا أننا كنا نملك أكثر من جهاز للراديو لنستمع إلى أخبار العالم من خلالها، وكانت مهمة الاستماع إلى الأخبار المهمة وتقديم تقرير عنها لقيادة الحزب توكل إلى سليمان النجاب الذي كان يملك ذاكرة حديدية؛ كان يسجل ما يسمع ثم يتلوه علينا لنبدأ بمناقشته. هذه الحياة الغنية التي كسرنا من خلالها سم السجن ومرارته، حولت سجن الجفر من رمز للقسوة إلى مكان يطالب المعتقلون في السجون الأخرى، وأولئك الذين ينقلون منه إلى سجون غيره بالعودة إليه، وهو ما حدث معي شخصيا، فقد قضيت عامين في سجني المحطة والزرقاء أنا وبعض الرفاق، وخلال العامين لم تتوقف مطالبتنا بالعودة إلى سجن الجفر، وهو ما حدث فعلا. ** موسى أسطفان: سجين من طراز خاص
ألوف من الشباب والرجال مروا بتجربة سجن الجفر الشهيرة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. قسم كبير منهم واصل العمل السياسي بعد انتهاء فترة الاعتقال، لكن أعداداً أخرى مرت بتلك التجربة كاملة، ولم يتح للعموم الاطلاع على تفاصيلها بسبب ابتعادهم النسبي عن العمل السياسي بعد الخروج من السجن. وتكشف الحياة الداخلية للسجن طيلة سنوات الاعتقال الثمانية، كما يرويها من مروا، بها عن أدوار رئيسية لمعتقلين واصلوا حياتهم بيننا فيما بعد بصمت. كثيرون منا مثلاً يتداولون قصصاً عن الحياة الداخلية لمعتقل الجفر، بعض تلك القصص اشتهر لغرابته وطرافته، ومنها مثلاً قصة صناعة ماكنة لتفريخ الدجاج صنعت من موجودات السجن؛ ومنها صناعة مدافئ وتصميم نظام للتزود بالماء الساخن وغيرها. لكن قلة منا يعرفون الشخص الذي كان وراء كل تلك الأفكار التي لعبت دوراً في تسهيل الحياة الصعبة في ذلك المعتقل المعزول؛ إنه المرحوم موسى أسطفان (أبو جميل). وصفه الدكتور يعقوب زيادين في مذكراته بأنه «فنان وعبقري بالفطرة»، فقد فكّر «بتحويل برميل سمنة إلى صندوق لتفريخ الدجاج، وأجرى في وسطه وعلى الجوانب أنابيب يجري فيها ماء ساخن متصل بوعاء فيه ماء على موقد آخر مشتعل ليل نهار، ثم ثبّت ميزان حرارة داخل صندوق التفريخ. وضع البيض في الحاضنة، ورتب خفارة دائمة ليلاً نهاراً لمدة واحد وعشرين يوماً، وكانت مهمة الخفير أن يراقب ميزان الحرارة، فإذا ارتفع عن 37 مئوية يخفض حرارة الموقد، وإذا انخفض عن 37 يرفع حرارة الموقد، وهكذا إلى أن جاء يوم التفريخ المنتظر». ثم يكمل زيادين وصفه لفرحة الرفاق لحظة التفريخ بعد أن نادوا بعض الحراس الذين ذهلوا من قدرة الشيوعيين على تفريخ صيصان من دون دجاج، فصادروا الدجاج والمفرخة. لم تكن تلك آخر اختراعات «أبو جميل»، فهو من صمم وصنع المدافئ من موجودات السجن، ووزعها على جميع المهاجع لتنعم بدفء يقيها برد الصحراء، وهو من صمم نظاما للتدفئة والتزود بالماء الساخن من حرق النفايات.
قبل وفاته بقليل، قمت بزيارته لتسجيل تلك الوقائع، ظروفه الصحية السيئة حالت بيننا وبين الحصول على كامل المعلومات، لكن ما لفت انتباهنا، هو أنه ظل طوال اللقاء يقول إن ما قام به كان أمراً عادياً، واستغرب لماذا يثير ذلك اهتمامنا. أبو جميل، كان قد تعرف على الحزب الشيوعي قبل الاعتقال بنحو شهرين، وفي المحكمة وجه له سؤال واحد هو: هل تستنكر الحزب أم «تأكل 15 سنة»؟ فكان الجواب الجاهز ودون تردد: 15 سنة. قضى أبو جميل منها 8 سنوات. وتوفي في نهاية نيسان/أبريل 2006. له الرحمة. |
|
|||||||||||||