العدد 9 - حريات
 

كشف تقرير دولي جديد أن انتهاكات حقوق الإنسان في العراق ليست حكراً على الاحتلال وبعض وحدات الشرطة العراقية، بل هناك شركات خاصة أميركية تضطلع بهذه المهمة غير الإنسانية.

ويورد تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش ثلاثة شواهد لحالة واحدة كدليل يثبت اضطلاع القطاع الخاص بهذا الدور.

يسرد التقرير الذي صدر في كانون الأول/ ديسمبر 2007 الانتهاكات الخطيرة لحياة مدنيين اقترفها متعاقدون أمنيون أميركيون في العراق بشكل عام، وشركة بلاك ووتر المتخصصة بالعمليات الأمنية بشكل خاص.

يرتكز التقرير على حادثة إطلاق نار عشوائي قام بها أفراد بلاك ووتر في أحد الميادين المزدحمة ببغداد بتاريخ 16 أيلول/ سبتمبر 2007، من دون وجود أي تهديد يبررها، ما أدى يومها لمقتل 17 مدنياً تصادف وجودهم هناك، وجرح العشرات. «هذا الحادث كان نقطة مفصلية، حيث أدى للتدقيق في المشكلات التي يتسبب بها المتعاقدون من الشركات الخاصة، والذين يعملون في العراق في ظل حالة من الإفلات من العقاب».

في رواية لأحد الشهود في التقرير، وهو رجل شرطة عراقي يدعى «خلف»، قال إنه بينما كان يومها يمارس عمله كالمعتاد بتوجيه الحركة المرورية الآتية من طريق اليرموك متجهة إلى ميدان نيسور، شاهد أربع عربات ضخمة ببنادق مُركبة في أعلاها، فأوقف المرور، بحسب التصرف الروتيني المطلوب منه «بعد أن أدرك من الطوافتين المرافقتين للعربات أن هذا هو موكب أمني لشركة أمنية، كي يتيح المجال لمرور الموكب».

تراجع الموكب في التفافة، غير متوقعة يشرح الشاهد، واتجه في الطريق المعاكس دائراً حول الميدان أحادي الاتجاه، ومتوقفاً عند منتصفه ليبدأ في إطلاق النار. حينها التفت “خلف” نحو طريق اليرموك ليرى ما الذي دفع الموكب لإطلاق النار، لكنه لم ير أحداً يطلق النار على القافلة أو يقترب منها، بل سمع امرأة تصيح: “ابني.. ابني”، فركض بطول ثلاث سيارات نحو الخلف إلى أن يتوقف بمحاذاة السيارة التي كان الصياح يصدر من داخلها، ليجد امرأة تحمل شاباً صغيراً مترنحاً غارقاً في الدماء. وتابع: “رفعت ذراعي الأيسر عالياً في الهواء محاولاً أن أشير للقافلة لتوقف إطلاق النيران”، معتقداً أن القافلة سوف تستجيب لمثل هذه الإشارة من رجل شرطة. لكن كثافة النيران ازدادت بدلاً من ذلك، ما اضطره للفرار والاختباء خلف كشك لشرطة المرور، لكن الرصاصات انهالت بالقرب منه، وأصابت إشارة المرور المجاورة وباب الكشك، ففر مرة أخرى عائداً إلى طريق اليرموك طلباً للأمان خلف أحد المرتفعات. وظل هناك مع مئات آخرين حتى انتهت الفوضى، يراقب الطوافتين وهما تدوران فوق الشارع، وتشرعان في إطلاق النار على من تحتهما.

احترقت السيارة التي سمع “خلف” صراخ الأم فيها، وماتت الأم مع ابنها، وتفحمت جثتيهما حتى لم يعد التعرف عليهما ممكناً. كان الابن يدعى أحمد، وهو طالب في كلية الطب ويبلغ من العمر 20 عاماً، أما أمه فتدعى محاسن، وهي طبيبة أمراض جلدية وأم لثلاثة أبناء.

كما روى «هيثم» وهو زوج محاسن ووالد أحمد، لمعدي التقرير، أنه كان ينتظر أن يمرا عليه لأخذه من المركز الصحي الذي يعمل به في فترة ما بعد الظهر. ولما تأخرا اتصل بهواتفهما الخلوية، وظن أن عدم إجابتهما سببها وجودهما خارج نطاق التغطية الهاتفية، فذهب إلى البيت من دونهما. في البيت، اتصل بشقيقه الذي يعمل في المستشفى القريب من ميدان نيسور، فذهب الشقيق إلى حجرة الطوارئ ثم إلى المشرحة. قيل له إن كل الجثث تم التعرف عليها باستثناء جثتين متفحمتين توجد أجزاء مفقودة منهما. وقد تعرّف «هيثم» على ابنه مما تبقى من حذائه. وكان جبينه ومخه مفقودين، وجلده محترقاً تماماً. وتعرف على زوجته من بقايا حشو أسنانها.

وذكر تقرير هيومان رايتس ووتش أن وزارة الخارجية الأميركية اتصلت بهيثم وسألته كم يريد كتعويض، فرد: «إن حياتهما لا تقدر بثمن». لكن ممثل وزارة الخارجية أصر على أن يعطيه رقماً، وبالتالي قال له هيثم: «إذا تمكنوا من إعادة أحبائي إليّ، فسوف أمنحهم 200 مليون دولار عن طيب خاطر». وقد عرضت وزارة الخارجية الأميركية على أقارب الضحايا عشرة آلاف دولار عن كل قتيل، وهو رقم اعتبروه، بحسب التقرير، زهيداً بشكل مهين ورفضوا تقاضيه. ويؤكد التقرير أنه لم يكن هناك من سبيل لمعاقبة المتورطين في الحادث، ما اضطر المتضررين لرفع قضية ضد شركة بلاك ووتر يتولاها فريق من المحامين الأميركيين من مؤسسة «بيرك أونيل».

تضمن التقرير رواية شاهد آخر يدعى «حوبي»، ويعمل في أحد البنوك، كان متواجداً في منطقة الحادث أثناء استراحة الغداء. قال إنه كان عالقاً في الزحام المروري على الجانب المقابل للميدان، حين سمع بداية إطلاق النار. حينها خرج من سيارته محاولاً معرفة ما يدور، فرأى القافلة الأمنية والسيارة البيضاء تحترق، وبدأ ينادي على السيارات الأخرى لكي تلتفت وتعود. حومت الطوافتان فوق سيارته، وكل منها فيها رجل يحمل بندقية آلية تطل من الطائرة، ما دفعه ليدير سيارته في ذعر إلى الاتجاه المعاكس. ساعتها اقتربت القافلة الأمنية من خلفه، وألقت زجاجات مياه على سقف سيارته، ثم شعر بألم في ذراعه الأيمن وساقه اليسرى، وكان ذلك نتيجة إصابته بالرصاص، ففتح باب السيارة وتدحرج منها إلى الخارج، حيث تقدمت السيارة لمسافة قصيرة ثم ارتطمت بجدار وتوقفت. وقضى «حوبي» الأيام الثلاثة التالية في المستشفى، وأخضع لجراحة كبيرة في ذراعه الأيمن الذي تهشم بفعل رصاصة. وقال هذا الشاهد إنه لم ير أي أحد على جانبه من الميدان يهدد قافلة «بلاك ووتر» بأي شكل.

في المقابل، ذكر التقرير أنه وفي جلسة تحقيق أجراها الكونغرس الأميركي في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي حول الحادث، ادعى «إيريك برينس» رئيس مجلس إدارة شركة بلاك ووتر، أن حراس الشركة: «ردوا على أهداف تنطوي على التهديد كانت قد بادرت بإطلاق النار عليهم»، بمن فيهم «رجال معهم بنادق من نوع (أيه كيه 47) يطلقون النار على القافلة» وأكد أيضاً أن إحدى العربات تعطلت بفعل «نيران العدو» ووجب جرّها بعيداً عن المكان. وزعم أن الطوافتين لم تقوما بإطلاق النار على الأشخاص بالأسفل.

خصخصة انتهاكات حقوق الإنسان العراقي – سامر خير
 
10-Jan-2008
 
العدد 9