العدد 59 - أردني | ||||||||||||||
السّجل - خاص ردود الفعل التي أبداها الشارع العربي تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة، من حيث الكم والنوع، تمثل حالة جديرة بالملاحظة والتدقيق. فالمروجون والداعون من عرب وفلسطينيين، لفكرة أن القضية الفلسطينية تخص الفلسطينيين دون سواهم، وأنها أمر فلسطيني داخلي محض، سوف يجدون صعوبة جمة بإقناع أنفسهم بصحة هذه النظرية أمام الهبة التضامنية للشارع الأردني، ناهيك عن إقناع المواطنين فلسطينيين كانوا أو عربا بهذا الرأي. ففي حين كانت آلة الدمار الإسرائيلية تصب حممها على مواطني غزة، كان الشارع العربي يعلن استعادة ملكيته للقضية الفلسطينية، ويعبر عن رؤى أيديولوجية وسياسية تجاه القضية. ولعل انقسام القيادات الفلسطينية بين تيارين تجاه التعامل مع إسرائيل والقضية الفلسطينية، أتــاح للشــارع العربــي استعادتــه لملكية القضية، وأتاح هامشاً للتعبير عن اتجاهات سياسية متباينة للتعامل مع القضية ومع إسرائيل. ردة فعل الشارع الأردني استرعت الملاحظة، ليس فقط لجهة الأعداد الهائلة التي عبّرت عن تضامنها مع أهالي غزة، وطرحت العديد من النقاط البرامجية على الدولة الأردنية والشارع لاتخاذها في سياق دفع العدوان الإسرائيلي، مثل إعادة النظر بمعاهدة السلام، قطع العلاقات، مقاطعة منتجات أميركية وإسرائيلية....إلخ. بل كذلك لجهة عفوية التحرك الشعبي، وطرح مبادرات تضامنية فردية وغير مؤطرة، استبَقت مبادرات القوى السياسية والنقابية والمدنية على اختلافها، حتى بدا أن هذه القوى والشخصيات العامة التي تعد قيادات سياسية بحكم مواقعها، كانت تلهث للّحاق بحركة الشارع وعفويته، وأحياناً اتخذت تحركاتها التضامنية مظهر التنافس مع حركة الشارع لإظهار نفسها بأنها مهيأة لقيادة حركة الشارع. إن عدم انتظار الجمهور للأطر الحزبية أو الشخصيات العامة كي تعبئه وتقوده، هو انعكاس مباشر لضعف تمكن هذه الأطر خلال السنوات القليلة الماضية من التأطير، أو النفاذ إلى فئات المجتمع المتباينة. خلافاً لذلك فقد جرى التأطير على أسس ليست ذات علاقة بالاطار المدني او السياسي، ولصالح المفاهيم الفرعية، أو الهويات غير الطوعية (المتوارثة) وغير المرتكزة على أساس المصالح الاقتصادية والاجتماعية. عند بدء شن العدوان على غزة كان وضع الشارع الأردني يعكس حالة عدم تسيّس عميقة، وانقسامه إلى هويات غير مدنية أو سياسية، وانغلاقه في هويات ضيقة قد تكون ذات جدوى في بعض القضايا أو الشؤون الاجتماعية المحدودة. رغم هذا فلقد لوحظ أن الشارع الأردني أبدى قابلية سريعة على تخطي هذه الانقسامات، والخروج من الحدود الضيقة لحركته السياسية إلى فضاء أوسع. وقد كان من نتائج التضامن مع أهالي غزة مد الجسور بين فئات المجتمع، على اختلاف تنوعها الاقتصادي والاجتماعي والديني وبلد الأصل والمنشأ الجهوي. لقد شكلت هبة الشارع ظاهرة ذات فرادة، لم تستطيع الانتخابات النيابية الأخيرة، او انتخابات مجالس طلبة الجامعات أن تبلورها. وقد عكس ذلك دينامية المجتمع الأردني القائم على هويات متعددة ذات جذور متباينة، لكن مكوناته سرعان ما تندمج أمام أحداث سياسية كبرى. وبهذا فإن مفاجأة المراهنين على أن المجتمع الأردني سوف يكرر انقسامه الذاتي إلى الأبد على أسس غير سياسية، كانت مفاجأة بلا حدود. إلا أن غياب العمل الطوعي المدني والسياسي، القائم على مصالح الأفراد رغم تباينها، وترك الساحة للهويات الفرعية لتكون هي المؤطر الوحيد للمواطنين، قد انعكس في الحوار الذي دار على هامش حركة الشارع. فقد تردد حديث عن رفع الأعلام التي تمثل اتجاهات سياسية، وكأن رفع هذه الأعلام دلالة على حالة مارقة وتهديد للأمن الوطني. الأشد إثارة أن البعض نظر بعين الريبة والتوتر كلما ارتفعت أعلام فلسطين. وتم الاندفاع في نقاشات لا تنتهي ترتكز على تحليل تآمري، حول وجود أو عدم وجود الأعلام الأردنية في هذه التحركات الشعبية. البعض أيضا تساءل عن جدوى مثل هذا التحركات، من منطلق كثرة الرموز التي تعبر عن الشعب الفلسطيني مثل الحطات والصور وغيرها. مثل هذا التساؤلات والنقاشات تحمل على التساؤل ما إذا كانت تلك التحركات هي مظاهر تضامنية مع شعب فلسطين الذي يدفع الضريبة الأكبر والأغلى لقضية العرب الأولى.، أم هي تحركات للتضامن الوطني الأردني الداخلي. فمئات الآلاف الذين تظاهروا في لندن لم يرفعوا الأعلام البريطانية ولا رموز الثقافة البريطانية على تنوعها واختلافها، بل أعلام فلسطين حتى المتظاهرين من اليهود البريطانيين في لندن، رفعوا علم فلسطين ولا شيء سواه. ولم تنتقص من هوية الإسبان او ثقافتهم أن يرفع ربع مليون متظاهرإسباني أعلام فلسطين، وأن يرتدوا الكوفيات الحمراء والسوداء، وأن يضعوا علم فلسطين على أحد الميادين الرئيسية في مدريد. فلماذا نحن في الأردن الذين نتشارك في ألوان العلم، أصوله التاريخية وفي العديد من الرموز (الحطة السوداء والحمراء المنتشرتان على حد سواء في الأردن وفلسطين)، وفي كثير من المحتوى الثقافي والتاريخي والحضاري نتحسس ونخشى مع ذلك من استخدام علم فلسطين. لماذا يصبح رفع هذا العلم ونحن نتضامن مع فلسطين مصدر تحسس، ولا يصبح رفع هذا العلم في دول أخرى مصدراً للشكوى. لعل السبب يتأتى من أن مجموعة من الداعين لتعريف الهوية الأردنية هم اقصائيون من حيث جوهر دعوتهم، بمعنى أن هؤلاء يعرفون الهوية الأردنية ورموزها، من خلال تجريدها من بعدها التاريخي والثقافي الذي أنتجها، ويبحثون عن رموز خاصة أحادية، لا تشترك فيها مع عناصر أو رموز أخرى في سورية أو لبنان او العراق او فلسطين. إنهم يحاولون البحث عن عناصر خاصة سائدة، ولو على نطاق ضيق ضمن جهة او فئة محددة، ولا وجود لها في مناطق أخرى في العالم العربي او إقليم بلاد الشام لتمثل رموزاً للهوية الأردنية. هذا التوصيف، بحد ذاته قسري، وينزع لإلغاء التنوع والتعدد القائم حتى في كل جهة من الجهات الجغرافية المختلفة من إقليم الدولة الأردنية. يغذي مثل هذا التعريف للهوية القسرية ضعف الأطر السياسية والمدنية لمصلحة أطر إرثية مغلقة، يجري ترشيحها لأن تكون بديلة عن أطر جمعية وتشاركية. محاولة بناء هذه الهوية استناداً إلى الخصوصية، يعتمد في الجوهر على توجهات انقسامية، والمفارقة أن مثل هذه الخصوصية او مشروع بناء مثل هذه مرشح لأن يكون أول ضحايا هذه النزعة الانقسامية. إن أكثر العناصر أهمية في بنية المجتمع الأردني، هي تنوعه التعددي وأبعاده العربية والشامية، و يتعذر بمعزل عن ملاحظة هذه العناصر، التنظير لأية هوية توافقية وجمعوية في الأردن دون الانتقاص من التعددية الدينية والثقافية. إن قوة المجتمع الأردني تكمن في هذه العناصرالمؤتلفة والمركبة، وليس في رفع العلم فقط أو الترويج لوجبة بعينها، او سيادة لهجة محكية واحدة او لباس شعبي موحد. هذا التعدد والتركيب هو ما أفرزه الشارع الأردني وبشكل عفوي، في الأسبوعين الماضيين. فحدث جلل واحد لقضية مركزية أساسية في المنطقة العربية، جعل المواطنين، وبشكل غير منظم، يتجاوزون الرموز الإقصائية ويبحثون عن المشترك بينهم، كي يتضامنوا مع أهالي غزة في محنتهم، وهذا يعكس، بحد ذاته، أهمية قيام النخب المؤمنة بهذه التعددية، بأن تأخذ دورها في صياغة هويات توافقية جامعة، مقابل هويات إقصائية وإنقسامية. |
|
|||||||||||||