العدد 58 - ثقافي | ||||||||||||||
عواد علي تشير كلمة «الإنكار» في اللغة العربية إلى: النفي، الرفض، التجاهل، والنهي. وهي عكس القبول والإقرار. ويطلق مصطلح «الإنكار» في علم النفس على العملية الدفاعية التي يقوم الإنسان من خلالها باستحضار عناصر مكبوته في اللاوعي، وبصياغتها وإعطائها شكلاً، وذلك ليرفضها أو لينفيها (في الحلم يحدث الإنكار عندما يحلم النائم بأنه يحلم، ويعرف في حلمه أن ما يراه هو حلم وليس حقيقةً). بذلك يكون «الإنكار» عملية وعي لما يحصل. وثمة تعريف نفسي آخر يحدد «الإنكار» بأنه وسيلة يلجأ إليها الشخص الذي يبوح بإحدى رغباته أو أفكاره أو مشاعره التي كانت مكبوتة حتى تلك اللحظة، لكنه يستمر، في الوقت نفسه، في الدفاع عن نفسه من خلال إنكار تبعيتها له. خصّص فرويد مقالةً عن «البعد اللاواعي للإنكار» شرح فيها أن الوعي بالمكبوت يحدث في أثناء العلاج، عندما يقول المحلل: «لم أفكر هكذا»، أو في صورة أفضل: «لم أفكر بهذا قطّ». كما ركز فرويد على دور الرأي، انطلاقاً من أن مهمة التمييز لها في الواقع قرارات يجب اتخاذها، ويمكنها أن تقول أو تنقض قولاً، ويجب عليها أن توافق أو تعترض على الوجود في الحقيقة. من الدراسات المهمة التي استثمرت آلية «الإنكار»، بهذا المعنى، دراسة بعنوان «إنكار الجسد الأنثوي» للباحثة مي جبران، أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية، ترى فيه أن الأديان أدخلت في لاوعينا ووعينا أن الجسد يختلف عن الروح التي هي بعيدة عنه: هي، في ماهيتها، إلهية وأبدية، والجسد شهواني يموت. كما أسهمت الثقافات والحضارات والتطور الشخصي في بناء اللاجسد، من خلال الضغوط الإنسانية، حتى سيطر على الذهن والفكر. تخلص الباحثة إلى أن الثقافة الذكورية المتسلطة ربّت المرأة على كبت رغباتها وإنكار جسدها، وتتساءل: كيف ستتمكن من الزواج بعدما اعتادت على تعذيبه مازوخياً من خلال القمع الجنسي، ومن أن تعبّر من خلاله عن الرغبة، وأن تعيش حياتها الجنسية الطبيعية؟ في الفلسفة يرتبط مفهوم «الإنكار» بالمظهر السلبي للعدمية عند نيتشه، إذ تشير هذه «العدمية السالبة»، أو «النافية»، إلى مرض خطير ألمّ بالحضارة الغربية ينعته نيتشه تارةً بـ «الانحطاط»، وتارة أخرى بـ«الانحلال»، حينما يلخص نقائص عصره في عبارة واحدة هي «إنكار الحياة»، على أن تُفهم الحياة هنا بمعناها الواسع، من حيث هي المبدأ الكامن وراء الحضارة والمعرفة والسلوك، وهي أصل كل القيم الفكرية والأخلاقية والسياسية والعقدية. هذه الصيغة تجد تعبيرها في هيمنة «الروح الإنكارية» على الحضارة الغربية، وسيادة مبدأ تبخيس الحياة والوجود والجسد وكبت الغريزة وحجب الرغبة؛ حيث يصبح السلب هو المظهر الأساسي للوجود، والنفي أو الإنكار هو المظهر الأساسي للإرادة؛ فيصبح النموذج الارتكاسي هو النموذج المهيمن على الحضارة والإنسان باسم قيم مطلقة ومثل عليا مفارقة، أي باسم تقويمات وتأويلات تقدم نفسها بوصفها التقويم أو التأويل الحق. في النقد الأدبي كان الشكلانيون الروس أول من دعا إلى إنكار الطابع الأيقوني للأدب والفن، وتحطيم «واقعيتهما» من خلال عمليتَي «التغريب»، و«التعرية». ففي مقالته الشهيرة «الفن تقنية»، يوضح شكلوفسكي أن الهدف من الفن أن يمنح الإحساس بالأشياء كما تُدرَك، وليس كما تُعرَف. وتتمثل تقنية الفن في أن يجعل الموضوعات غير مألوفة، أي مغرّبة، من أجل نفي صورتها الاعتيادية في وعينا اليومي، وتغيير استجابتنا للعالم. يؤكد شكلوفسكي، أيضاً، على عملية «التعرية» بوصفها وسيلة يعري بها المبدع تقنيات عمله، ويكشف عن طبيعته الفنية، وينفي عنه ما يوهم المتلقي بأنه تمثيل طبيعي للواقع، وذلك تحدّياً للمثل الأعلى القديم الذي كان يرى أن على الفن أن يحجب عملياته. في السياق النقدي، أيضاً، يشير المفهوم لدى نظرية استجابة القارئ، وبخاصة عند المنظّر الألماني وولفغانغ آيزر، إلى قيام القارئ بعملية استبعاد عناصر التحديد الواقعية (الحاضرة) في نص ما، واستعادة العناصر المستبعَدة (الغائبة) عن قصد من بنيته. وتُعرف العناصر المستبعَدة بأنها مواقع اللاتحديد (الفجوات)، أي المواقع التي تؤجل مؤقتاً عملية التواصل بين القارئ والنص. وعليه فإن المعنى التام لا يظهر إلا باسترجاع العنصر المستبعَد، وأن ذلك لا يظهر أيضاً إلاّ من خلال نشاط خاص يقوم بالنفي والاسترجاع، وهو نشاط القارئ. ويعتقد آيزر بأن عملية الملء تخضع لسلسلة من الإجراءات المعقدة التي يستحضر فيها القارئ «سجل النص»، وخبرته في فهم النصوص. مفهوم «الإنكار» يكتسب أيضاً أهميةً بالغةً في صياغة العرض المسرحي وتلقيه على حد سواء. وفي سياق العلاقة المفترضة بين مفهوم «الإنكار» ومفهوم «كسر الجدار الرابع»، أو «كسر الوهم»، انطلاقاً من كون الثاني آليةً، أيضاً، لإنكار طبيعية الفن، ونفي لأبعاده الوهمية، يرى أحد الباحثين أن المحاولة التي أقامها الفيلسوف الألماني أدموند هوسرل، في فلسفته الظاهراتية، بكسر الجدار القائم بين البناء المثالي العقلاني الأرسطي والبناء التجريبي المادي الماركسي، هي بنحوٍ ما، تُماثل كسر الجدار الرابع بين «العرض» و«المتلقي» عند بريخت في منهجه الإخراجي المسرحي. لكن هذا الربط يبدو متعسفاً جداً، لأن ما يباعد بين نظريتَي هوسرل وبريخت، أكبر مما يقربهما إلى بعضهما بعضاً. فالفينومينولوجيا (الظاهراتية) تعنى، أساساً، بالشعور والكشف عن مضمونه ومبادئه من خلال دراسة «الشعور الخالص وأفعاله القصدية بوصفه مبدأ كل معرفة»، ويتصف هذا الشعور بالآنية، والاندماج بالظواهر، أو الأشياء في العالم الطبيعي، مستبعداً الفهم المعطى والقيم السابقة. من هنا، كان شعار هوسرل: «العودة إلى الأشياء نفسها»، في حين أن بريخت يركز في نظريته على دور التأمل العقلي/ النقدي في فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فهما جدلياً، انطلاقاً من خلفيته الماركسية. وقد حدد عملية الفهم في ثلاث مراحل هي (فهم، عدم فهم، فهم)، مفترضاً أن الوجود الاجتماعي يتحكم في الفكر ويحدد طبيعته وتوجهاته. لكي يتحقق الفهم ويفضي إلى التغيير، أنكر بريخت عملية الاندماج، على العكس من هوسرل، وسعى إلى تحطيم وهم الواقع، وتجنيب الممثلين اللجوء إلى التعاطف، ورفض تماهي المتلقي مع الظواهر التي يقوم عليها العرض المسرحي، أو الأحداث التي يتضمنها، داعياً إلى الوقوف خارجاً عنها، ومراقبتها وتأملها ودراستها عقلياً، ومواجهتها مواجهةً موضوعيةً ونقديةً لكشف تناقضاتها، وهتك الحجب التي تسترها، واتخاذ قرارات إزاء ما يجري فيها، والحكم عليها. |
|
|||||||||||||