العدد 58 - اقليمي
 

السّجل - خاص

الدخول التركي السريع والملحوظ على خط الحرب على غزة، ربما كان من أهم التداعيات الإقليمية للفصل الجديد من الحروب الإسرائيلية. وزير الخارجية التركي علي باباجان أطلق تصريحاً لافتاً الأحد الماضي في أنقرة، كشف فيه النقاب عن اتصالات تركية إسرائيلية كانت جارية منذ أمد قريب للاتفاق بشأن «كلمة واحدة»، من أجل نقل المفاوضات السورية الإسرائيلية من المستوى غير المباشر إلى المستوى المباشر. وكان الرئيس السوري بشار الأسد بدوره تحدث في غضون كانون الثاني/ديسمبر الماضي، عن قرب انتقال المفاوضات مع تل أبيب إلى المستوى الثنائي المباشر.

أنقرة رعت المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب منذ أواخر العام 2006، ووفرت لها كل التسهيلات، وبخاصة الحفاظ على أجواء التكتم والسرية التي اكتنفتها، ولم يتم اختراقها من أي طرف.

مغزى تصريح رئيس الدبلوماسية التركية، أنه في الوقت الذي كانت فيه الظروف مهيأة، لتحقيق نقلة نوعية في المسار السياسي لأزمة الشرق الأوسط، فقد أشعلت تل أبيب نيران حرب جديدة، وهي النيران التي تحرك الإطفائي التركي، على وجه السرعة، لمحاولة إطفائها، بعدما وجه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، نقداً لاذعاً للسلوك الإسرائيلي، واصفاً ما يجري بأنه «إهانة لتركيا»، وذلك في ضوء تعهدات إسرائيلية نقلها أولمرت قبل أيام من شن الحرب، لمسؤولين أتراك، بأن تل أبيب لن تجنح إلى التصعيد في غزة، وأنها تسعى خلاف ذلك إلى التهدئة.

الرعاية التركية للمفاوضات السورية الإسرائيلية مهددة بالتوقف، فقد أشار ناطق دبلوماسي في وزارة الخارجية الإسرائيلية، إلى أنه «كان من الخطأ إسناد دور محوري لأنقرة في التوسط بين سورية وإسرائيل». جاء التصريح المفاجىء عقب كلمة لأردوغان بثتها محطات التلفزة التركية الأحد الماضي، وشن فيها هجوما قوياً على تل أبيب وأخذ عليها «القيام بأعمال غير إنسانية في القطاع، قد تقود إلى تدمير دولة إسرائيل» وقال: فيها «إن إسرائيل سوف تغرق بدموع الأمهات والأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم» وهو ما أثار حفيظة الإسرائيليين حيث اعتبر الناطق الدبلوماسي للخارجية في تل أبيب بأن ما ورد في كلمة أردوغان «يخالف كل الأعراف والأصول». ولم يشر الناطق إلى ما إذا كان قصف المدنيين والمرافق المدنية، من بيوت ومستشفيات ودور عبادة ينسجم مع «الأعراف والأصول».

الموقف النقدي القوي للحكومة التركية جاء متناغماً مع تحركات شعبية حاشدة ومتوالية شهدتها الشوارع التركية على مدار الأسبوع، أدانت الحرب بأقوى التعبيرات، ودعت إلى نصرة أبناء غزة، واتسمت بروح التضامن الإنساني والإسلامي. ويشكل أنصار حزب العدالة والتنمية ما يناهز أربعين مليون نسمة، صوتوا للحزب مرتين في غضون السنوات الخمس الماضية، لصالح الحزب ذي الجذور الإسلامية وأزاحوا زعامات تاريخية تربعت على سدة الحكم طيلة سبعة عقود.

أردوغان الذي نشط في تحرك في المنطقة العربية حمّل إسرائيل مسؤولية ما يجري، وأخذ على تل أبيب في محطته السعودية، أنها لم تلتزم برفع الحصار كجزء من خطة التهدئة التي أبرمت برعاية مصرية في حزيران/يونيو الماضي. وكان أردوغان زار دمشق وعمان والقاهرة قبل انتقاله إلى الرياض.وفي محطاته الأربع بدا عليه التأثر الشديد.

يسترعي الانتباه أن الدبلوماسية التركية رفيعة المستوى، بدت وقد جاءت لتملأ الفراغ الدبلوماسي العربي وتعيد التماسك للاضطراب البادي في المواقف العربية الرسمية، بعد أن أخفق اجتماع لوزراء الخارجية العرب، في رسم ملامح أي تحرك ذي معنى باستثناء التوجه إلى مجلس الأمن.

جولة أردوغان لم تشمل تل أبيب، وقد بدا ذلك غير مألوف و«خللاً تقنياً» في التحرك التركي، غير أنه من الواضح أن أنقرة شاءت توجيه عدة رسائل إلى الدولة العبرية عبر استثنائها من جولة رئيس وزرائها، منها : تحميلها مسؤولية ما يجري، وأن علاقات تركيا بالعالم العربي تزداد وثوقاً على قاعدة المصالح الهائلة المشتركة: المنتوجات التركية التي «تغزو» أسواق الخليج والمنطقة، والسياحة العربية التي يتضاعف حجمها من عام لعام إلى تركيا، ومنها أن العلاقات التركية الإسرائيلية سوف تتأثر بما يجري. وتخطئة الناطق الدبلوماسي الإسرائيلي لقبول تل أبيب بالمظلة التركية للمفاوضات مع دمشق، هي أولى ثمرات هذا التأثر.

العلاقات العربية التركية شهدت بالفعل تحسناً مطرداً مع وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى سدة الحكم في أنقرة: رئاسات الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، وبدا التعاون العسكري المستمر والمتين مع تل أبيب، بغير غطاء أو عمق سياسي، كما يعكس هذا الأمر تقسيم العمل بين المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي للدولة، والتباين السياسي والأيديولوجي بين العسكر والسياسيين «الجدد» في أنقرة الذين نجحوا في «انتزاع» موقف عربي وعراقي يدعم الحملة التركية ضد «المتمردين الأكراد» الذين يمثلهم حزب العمال الكردستاني. وكان تحسن العلاقات السورية التركية قد تأسس على إغلاق معسكرات حزب العمال في البقاع في فترة الوجود السوري في لبنان، وترحيل عبدالله أوغلان إلى خارج سورية والذي يقبع حاليا وراء القضبان في تركيا، بعد أن تم عليه الحكم بالإعدام غير أن الحكم جمد إثر ضغوط أوروبية في سياق المفاوضات التركية الأوروبية، لضم البلد المسلم (70 مليوناً) إلى الاتحاد الأوروبي.

في هذه الأثناء وبينما تنظر دمشق إلى علاقاتها مع جارتها تركيا، باعتبارها رصيداً إضافياً لعلاقاتها مع إيران، وشاهداً على «التوازن» في التحالفات الإقليمية لعاصمة الأمويين، وطريقاً للحوار غير المباشر مع واشنطن والتفاوض غير المباشر مع تل أبيب، فإن بقية العالم العربي ينظر إلى تركيا بوصفها قوة إقليمية بناءة، في مقابل التشدد الإيراني ونزعات التمدد لدى طهران في المنطقة العربية، مع ما لذلك من انعكاسات على المجتمعات العربية( تعزيز الانشطار الأهلي والطائفي في العراق ولبنان مثلاُ).

وبعد عقود من تصنيف تركيا كبلد حليف للغرب وصديق لإسرائيل، ومنقطع سياسياً عن جيرانه العرب، وكان أول بلد مسلم يعترف بالدولة العبرية، وبعد خلافات سورية وعراقية مع أنقرة حول استثمار مياه نهر الفرات وقيام الأتراك ببناء سد أتاتورك الذي يحجز نسبة عالية من مياه النهر، فقد تعزز الموقف التركي لدى الرأي العام العربي، عشية الحرب الأميركية الأخيرة على العراق والنظام العراقي السابق العام 2003، حيث رفضت تركيا الانضمام للحملة العسكرية الأميركية رغم روابطها الأطلسية مع واشنطن. وقد تمكنت أنقرة بذلك من صوغ علاقة مع واشنطن تقوم على احترام خيارات استراتيجية خاصة ببلاد الأناضول، رغم التفاهم الاستراتيجي أيضا مع واشنطن وبقية الحلفاء في الغرب. لكن تركيا ما زالت تقوم بدور ملتبس في العراق يتعدى صراعها التاريخي الدموي مع الأكراد، إلى محاولاتها وضع موطىء قدم لها في بلاد الرافدين، سواء باستمالة العراقيين من أصول تركمانية، أو التلويح بـ«حقوق تاريخية» لها في الموصل شمال البلاد.

تركيا التي يترأس ممثل لها هو أكمل الدين إحسان أوغلو منظمة المؤتمر الإسلامي (55دولة) وتحتل مقعداً غير دائم في مجلس الأمن، تراهن بما تتمتع به من صدقية واعتدال على المسرح الدولي، على كسر الاستاتيك الغربي ـ الأوروبي الأميركي تجاه قضية السلام في الشرق الأوسط والحرب على غزة، انطلاقاً من إدانة الحرب الأخيرة ونزع المبررات عنها، لا وصفها بأنها «دفاعية» كما فعل الاتحاد الأوروبي برئاسته التشيكية. وتتقدم أبعد من ذلك داعية لرفع الحصار وفتح المعابر وتكريس التهدئة، والانتقال إلى مصالحات متعددة: عربية عربية، عربية إسرائيلية، وفلسطينــية فلسطينية، بما يهيئها للعب دور متعاظم، إذا أحسن العرب استثمار هذه الدينامية الناشئة، وتوقفت الصراعات الخفية والعلنية ما بينهم على غزة وسواها.

تركيا: عبور العالم العربي عبر غزة
 
08-Jan-2009
 
العدد 58